تأخر العرب في سلّم التمدّن الحضاري والرقي المادي لأسباب من أهمها: الجهل والاستبداد والاختلاف؛ فالجهل حملهم على هجر المعرفة والتقصير في طلب العلم والإعراض عن القراءة والاطلاع والبحث والاستقراء فارتفعت نسبة الأميّة ورضوا باجترار الماضي والتغني بمجد الأجداد، مع العلم أن أول آية نزلت على النبي الأمي العربي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق)...
ولهذا فانظر نظر متأمل في الجمهور العربي في الميادين العامة والحدائق والطائرات والباصات تجدهم في كلام لا ينتهي وحديث فارغ لا ينفع بينما ترى غيرهم من الشعوب الشرقية والغربية أهل اطلاع ومصاحبة للكتاب وأهل نظر وبحث ودراسة وتأمل، ومن أسباب التّخلف الاستبداد والانفراد بالرأي وتعطيل عمل المؤسسات وعدم السماع للآخر وعدم الإنصات لأراء العقلاء والحكماء والاستيلاء على المقدّرات والاستحواذ على الثروات ومحاربة الأفكار المبدعة والمواهب الخلاّقة خوفاً من التغيير والعمل بشعار (ليس في الإمكان أحسن مما كان) وترديد مقولة: (الله لا يغيّر علينا) والله لا يغيّر حال المحبطين والضعفاء والفاشلين حتى يغيروا ما بأنفسهم فيطلبون العلم ويعمرون نفوسهم بالإيمان ودنياهم بالعمل والإنتاج، والسبب الثالث من أسباب تأخر العرب الاختلاف والفرقة والتّمزق والأنانية فهم ثنتان وعشرون دولة واثنان وعشرون رأياً واثنان وعشرون مقعداً واثنان وعشرون طريقاً، وهذا الاختلاف جعلهم أعداء لأنفسهم ومصالحهم، فالجار العربي يتربص بجاره وربما احتل أرضه واغتصب دياره كما حصل في مناطق التوتر بين دول عربية بينما تجد أوروبا على اختلاف دياناتها ومذاهبها وأعراقها ولغاتها توحّدت في كيان واحد وعملة واحدة وسوق واحدة وبرلمان واحد وجيش واحد فأصبحت دولة واحدة، ولن ينهض العرب من كبوتهم إلا بالإيمان والعلم والعمل والعدل والوحدة.
فالإيمان: يجعلهم عباداً لله صادقين مخلصين أهلاً لحمل الرسالة التي جاء بها النبي العربي صلى الله عليه وسلم بكتاب عربي فيعتزون بدينهم ويتشرفون برسالتهم للعالم.
وبالعلم ينفضون عنهم غبار الجهل والأميّة والتّخلف وتُفتح أمامهم أبواب المعرفة والإبداع والاختراع.
وبالعمل ينطلقون في ميادين الحياة وحقول البناء والتعمير ويبنون صروح المجد فلا يكونون عالة على غيرهم همهم الاستيراد والاستهلاك وإنما يملكون الكفاية والاستغناء عن الآخرين.
وبالعدل يرتفع عنهم سوط الظلم وسيف الجبروت وشبح الاستبداد ويعيشون أحراراً كرماء شرفاء سواسية في الحقوق والواجبات بلا ظلم ولا اضطهاد ولا مصادرة لحقوق الآخرين ولا تكميم للأفواه الراشدة ولا حجب للآراء السديدة.
وبالوحدة تتم لهم القوة والعزة وتهابهم الأمم وتقدّرهم الشعوب ويُسمع صوتهم في المحافل الدولية ويحتلون موقع الصدارة بين أمم الأرض، كيف كنا وكيف أصبحنا، كنا في فترة من فترات التاريخ يوم آمنا بالله واعتصمنا به وطلبنا العلم وحكمنا بالعدل ونشرنا المعرفة كنا حينها سادة العالم ومنتجي أروع حضارة في تاريخ البشرية الطويل وشيّدنا عواصم في العلم والازدهار المعرفي والمجد الحضاري في مكة والقاهرة وبغداد ودمشق والزيتونة والقيروان وقسنطينة ومراكش وقرطبة والحمراء والزهراء واسطنبول والسند، ثم صرنا الآن في وضع يُرثى له نطلب الدواء والغذاء والكساء من غيرنا ونستورد ملابسنا وأثاثنا ومراكبنا من سوانا ونطلب العفو من القوى العظمى الضاربة ونستجدي العالم لحمايتنا، بل إن الشعوب العربية تتوسل إلى حلف الناتو أن يحميها من بطش الظالمين وقهر السفّاحين وصرنا في عالم الدنيا من الدول النامية بل النائمة والعالم الثالث فلا ديناً نصرنا، ولا عدواً كسرنا، ولا جهلاً قهرنا، ولن نعود إلى مجدنا الباهي السابق إلا كما كنا مؤمنين صادقين عاملين صابرين أوفياء لرسالتنا حفّاظاً لمبادئنا غيورين على أمتنا أهل علم وعدل ووحدة وسلام ورحمة.
د. عائض القرني