"أهمية العلم والعلماء "
إن أول ما يجب التسليم به هو أن علم البشر وعلم الخلائق كلها لا يساوي شيئًا أمام علم الله المطلق، لقوله تعالى: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: 76].
فعِلْمُ الله مطلق لا حد له ولا حصر، يعلم الجزئيات والكليات، ولا يغيب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء، سواء أكان في السر أم في العلن، قال تعالى: ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ [الأنعام: 3].
بل إن علم الخلائق جملة سواءً أكانوا ملائكة أم رسلاً أم أنبياء أم علماء من عطاء الله؛ حيث يقول سبحانه: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: 31 - 32].
وعن أُبَيِّ بن كعب قال: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: بَيْنَا مُوسَى فِي مَلأ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ. فَقَالَ مُوسَى: لا. فَأُوحِيَ إِلَى مُوسَى: بَلَى! عَبْدُنَا خَضِرٌ. وفي رواية: قال: فَانْطَلَقَا - موسى والخضر - يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ لَيْسَ لَهُمَا سَفِينَةٌ؛ فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ، فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمَا، فَعُرِفَ الخَضِرُ، فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ الخضِرُ: يَا مُوسَى! مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ كَنَقْرَةِ هَذَا الْعُصْفُورِ في الْبَحْرِ.
إنها نصوص رائعة من نصوص شرعنا، نصوص ناطقة ومعبرة؛ لهذا وجب على كل عالم أو متعلم إرجاع العلم إلى الله أولاً، وقد عنون البخاري - رحمه الله - بابًا من أبوابه الحديثية بقوله: باب مَا يُسْتَحَبُّ لِلْعَالِمِ إذَا سُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَيَكِلُ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ.
وهو المنهج الذي سار عليه السلف الصالح، فعن ابن أم عبد الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود أنه قال: مَنْ عَلِمَ فَلْيَقُلْ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلِ: اللَّهُ أَعْلَمُ؛ فَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لاَ يَعْلَمُ: لاَ أَعْلَمُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ [ص: 86]، بل هو النهج الذي سار عليه سلفنا الصالح في كتاباتهم واجتهاداتهم؛ فقلما يخلو مقال لهم أو كتاب من ختم بكلمة: (الله أعلم).
العلم الذي يُخشى من رفعه:
ورد العلم في نصوص شريعتنا بعدة معانٍ، من أهمها:
- معنى الخشية: قال تعالى: ﴿إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]. وقال ابن مسعود: ليس العلم بكثرة الحديث، ولكن العلم بالخشية.
- معنى النور: قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَ﴾ [الشورى: 52]. وقال إمامنا مالك: إن العلم ليس بكثرة الرواية، ولكنه نور جعله الله في القلوب.
- معنى القرآن: حيث سمّى الحق سبحانه القرآن عِلمًا في قوله تعالى: ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ﴾ [سبأ: 6]. كما عرَّف النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن بالعلم في قوله: أبا المنذر! أي آية معك في كتاب الله أعظم-مرتين؟ قال: قلت: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، قال: فضرب في صدري، وقال: ليهنك العلم أبا المنذر!
- معنى الحديث: فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: لقد ظننتُ يا أبا هريرة أنه لا يسألني عن هذا الحديث أحد أوْلى منك؛ لِمَا رأيت من حرصك على الحديث، وإن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قِبَل نفسه. وفي رواية: والذي نفسي بيده لقد ظننت أنك أول مَن يسألني عن ذلك؛ لما رأيت من حرصك على العلم. وأخرج الشيخان في صحيحيهما واللفظ للبخاري عَنْ أَبِي مُوسَى -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الماءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الماءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِي قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً، وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ.
فَضْلِ الْعِلْمِ عامة والعلوم الشرعية خاصة:
وهذا أمر لا يخفى على عاقل أريب؛ فنصوص الوحيين ناطقة بفضله، مغرية بتمثله؛ حيث يقول سبحانه: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11].
وقال - صلى الله عليه وسلم: مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة، وقال: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له. وقال: تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه، وقال ابن عمر – رضي الله عنهما: العلم ثلاثة أشياء: كتاب ناطق، وسنة ماضية، و (لا أدري)، وقال الشاطبي - رحمه الله: واتفق أهل الشرائع على أن علوم الشريعة أفضل العلوم، وأعظمها أجرًا عند الله يوم القيامة. وقال محمد بن القاسم بن خلاد: العقل دليل الخير، والعلم مصباح العقل، وهو جلاء القلب من صدى الجهل.
آداب طلب العلم:
1- النظر فيمن يؤخذ عنه العلم:
وهذا يعني أنَّ تعلُّمَ العلم الشرعي تديُّن وعبادة وتقرب إلى الله؛ لهذا يجب الاحتياط في أخذه، وحسن تلقيه من أهله؛ فعن مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ؛ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ!
2- ضرورة التخصص في العلم:
قال تعالى: ﴿فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 122]. وقال سبحانه: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 83]. وقال - صلى الله عليه وسلم: مَن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما العلم بالتعلُّم. وقال أيضًا: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون. وهم: أهل العلم.
3- ضرورة الإخلاص في طلب العلم:
وهو أمر لا يتمارى فيه اثنان، ولا يتناطح فيه عنزان؛ فكل عمل خلا من الإخلاص فَقَدَ قيمته؛ فالإخلاص أساس اليقين، ومَن تيقن أمرًا دام على السير في نطاقه، قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5].
4- الابتعاد عن تعلُّم العلم المذموم:
فلا يخلو أمر من ثنائية تخالفه أو تضاده؛ فما من شيء في الكون إلا وفيه النافع والضار؛ فالعلم علمان: علم نافع، وعلم ضار، ومن العلم الضار أن يتعلم الإنسان ما يضره أو يضر غيره، أو ما لا ينفع مطلقًا؛ لهذا قال - صلى الله عليه وسلم: مَن اقتبس علمًا من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد.
5- ضرورة بذل الجهد في طلب العلم:
فمِن المسلّم به أن الله - عز وجل - بنى حياة الإنسان على الأخذ ثم العطاء، فلا نيل دون جهد؛ فالجنة تُنال بالعمل، والنار تتجنب بالعمل، وتحقيق النجاح في الدنيا والفوز في الأخرى يتحقق بالعمل، وخصوصًا العلم؛ فلا يعقل أن يكتسب الإنسان علمًا دون أن يبذل جهدًا مقابل الحصول عليه، وهذا ما أكده أحد الصحابة الأجلاء فيما أخرجه مسلم في صحيحه قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ قَالَ: أخبرنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: لاَ يُسْتَطَاعُ الْعِلْمُ بِرَاحَةِ الجِسْمِ.
6- تجنب الخصال المبعِدة عن التعلم:
فالعلم مطلوب، وبذل النفس والمال والعاطفة من أجل الحصول عليه أمور أساسية، ولكن هناك خصلتان تمنعان من توفُّرِه والحصول عليه؛ لذا يجب تجنبهما، وهما: الحياء في طلبه، والاستكبار عن أخذه، وفي ذلك يقول التابعي الجليل مجاهد بن جبر: لاَ يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مُسْتَحٍ وَلاَ مُسْتَكْبِرٌ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رضي الله عنها: نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ! لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ.
خطورة رفع العلم وآثاره:
قال - صلى الله عليه وسلم: مِن أشراط الساعة أن يُرفع العلم، ويثبت الجهل، ويُشرب الخمر، ويظهر الزنا.
وقال النبي الأمين: بَيْنَ يَدَي السَّاعَةِ أَيَّامُ الْهَرْجِ، يَزُولُ الْعِلْمُ وَيَظْهَرُ فِيهَا الجهل. وقال - صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهَّالاً؛ فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا.
وفي رواية البخاري عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: حَجَّ عَلَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاهُمُوهُ انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ، فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ، فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ.
وإن كنَّا لا ننكر وجود الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة فإن ما أصبحنا نشاهده اليوم من اتِّباع العامة للسفهاء وهجر العلماء لَخَيْرُ دليل على أننا أضحينا أقرب إلى وقوع الآفة التي حذرنا منها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأن حديث نبينا واقع لا محالة فينا.
ولعل من الآثار السلبية الواضحة لغياب العلم ورفعه ما يلي:
1- حصول خلل في العقيدة:
إن غياب العلم برفعه أو بتغييبه عن واقع الأمة يُسهِّل على الشر والجهل العمل بسرعة من أجل الانتشار والتأثير، وأخطر تأثير يتسلط على الإنسانية بسبب غياب العلم: الجهل والتجهيل؛ حيث يحصل للناس نسيان الحقائق ثم تركها ثم الابتعاد عنها ثم استبدالها بما يُضاد العلم والمعرفة، وأهم ما اكتسبه الإنسان بالعلم: العلم بالله وعبادته وتوحيده؛ فإذا غاب العلم حصل ابتعاد الناس عن توحيد الله وعبادته كما أمر، ثم يخلق الناس لأنفسهم - بسبب الجهل وغياب العلم - آلهة تُعبد، وهذا ما أكده ابن عباس - رضي الله عنه - حبر الأمة فيما أخرجه البخاري في صحيحه معلَّقًا قال: صَارَتِ الأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ...
2- الاستخفاف بالعلم والعلماء:
وهذا أمر خطير؛ لأنه بحصوله يفقد الناس أطباءهم الرُّوحيين، ويحصل الضلال المبين، وقد حذر الفقيه الجليل الإمام ابن حزم الظاهري من حدوث هذا الأمر؛ فقال منكرًا على أهل زمانه استخفافهم بالعلماء: صار الناس في زماننا يعيب الرجل مَن هو فوقه في العلم؛ ليرى الناس أنه ليس به حاجة إليه، ولا يذاكر مَن هو مثله، ويُزهى على مَن هو دونه، فذهب العلم وهلك الناس. ولن نذهب بعيدًا، وننكر حدوث هذا الأمر، فكم استمعنا عبر الفضائيات إلى مَن يسب العلماء! وكم قرأنا من مقالات تطعن في علم بعضهم، وتسفِّه فكر الآخر؛ وهذا كله - مع الأسف الشديد - من قلة العلم وغياب فقه العلم.
3- جرأة الفساق على العلم:
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: إن أمام الدجال سنين خَدَّاعة؛ يُكَذَّبُ فيها الصادق، ويُصَدَّقُ فيها الكاذب، ويُخَوَّن فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، ويتكلم فيها الرُّوَيْبِضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الفُوَيْسق يتكلم في أمر العامة. الرُّوَيْبِضة: أي الفاسق، وفي رواية: التافه الذي يتكلم في أمور الدين. وهو جاهل لأيسر قضاياه، وأمثال هؤلاء كثيرون في زمننا، بل وفي كل الأزمنة التي مرت بالمسلمين، ولكنهم سيظهرون بكثرة في زمننا لغياب العلماء، وابتعادهم عن واجبهم ومسؤوليتهم، وترك الحبل على الغارب لمن لا يحسن الكلام؛ فكيف بالفتوى وإصدار الأحكام؟!
4- ولاية الدين من غير أهله:
وهذا يعني الترامي -إن صح التعبير- على العلم الشرعي من غير أهله وذويه، أو تولية غير أهله له؛ حيث يتقدم للفتوى مَن لا يدريها، ويُقدَّم لها مَن لا يستحقها، كما يُقدمون لتعليم الناس، فيحتلون بذلك مناصب هُم أبعد ما يكونون عنها، فتولِّي أمر الفتوى وأمر الدين من غير أهله وذويه يطعن الأمة في عمقها، ويسبب تشتتها وتمزقها؛ إذ الدين هو موحِّدها وجامع كلمتها، وبتولية من غير أهله تحصل كارثة في الأمة؛ إذ يمكن قبول أي ارتماء على أي مهنة أو حرفة إلا الارتماء على العلوم الشرعية وأمور الدين.
5- كثرة المعارف وقلة العمل:
حيث رُوِي عن زياد بن لبيد قال: ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا، فقال: ذاك عند ذهاب العلم، قلت: يا رسول الله! وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونُقرِئه أبناءنا ويُقرِئه أبناؤنا أبناءَهم إلى يوم القيامة؟! قال: ثكلتك أمك زياد! إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أوَليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما؟!
وعن أبي هريرة قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عليه رَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ: كَذَبْتَ. وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقَرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ؛ فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بَهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ...
والعلم أيضًا مطلوب؛ لأنه طريق العمل؛ فلا عمل دون علم، والله لا يُعبَد بالجهل، وهو القائل: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُو﴾ [الأنعام: 132]. والعلم إذا لم يكن له ثمرة في القلب والجوارح والمعاملات فكأنه لم يكن، وقال - صلى الله عليه وسلم - أيضًا: إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في جوف البحر، ليصلُّون على معلم الناس الخير.
6- اتِّباع أهل الكتاب:
وقد حذر الشارعُ المسلمين من عداوة أهل الكتاب لأهل الإيمان من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم، وبيََّن لنا في القرآن أن عداوتهم لن تنقطع، ولن يَرْضَوا عن حالنا إلا إذا أبعدونا عن ديننا أو نتبع ملتهم، فقال سبحانه: ﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [البقرة: 120]. وقال أيضًا: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُو﴾ [المائدة: 82].
كما أخبر الرسول الكريم بأن من سنن الله في خلقه وفي هذه الأمة اتباع أهل الكتاب في كل ما نَحَلوه وفعلوه، فقال: لتتبعُنَّ سنن مَن كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، حتى إذا دخلوا جحر ضب دخلتموه.
فالأمة مطالبة اليوم بالحذر وبالاحتياط فيما تأخذ وتتبع، والإسلام لا يعادي الأخذ من الآخر ولا الاستفادة من تجارب الأمم وحضارتهم، ولكنه يعادي التقليد الأعمى، والتلقي السالب الذي يسلب المرء من كرامته وشخصيته وهويته؛ حيث قال - صلى الله عليه وسلم - محذرًا من التقليد كيفما كان: لا تكونوا إمَّعة تقولون: إنْ أحسن الناس أحسنَّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم: إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا، وعن حرب بن إسماعيل الكِرْمَانِي، قال: قلت لإسحاق بن راهويه: ما معنى قوله: إمَّعة؟ قال: تقول: إن ضل الناس ضللتُ، وإن اهتدوا اهتديت.