السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته
بداية مبارك علينا السنة الهجرية الجديدة و جعلها الله تعالى عامرة بالطاعات و و فقنا الى ما يرضاه
تواضع النبي صلى الله عليه وسلم
إنَّ من توفيق الله للعبد أن يوفقه للعمل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم واقتفاءِ أثره والعملِ بهديه في أقواله وأفعاله وأخلاقه.
وهذه نعمة من الله لا يحصل عليها إلا مسدد, (وما يلقآها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم).
فإذا أراد المرء أن تكتمل شخصيته، وأن يجمع مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم؛ فلينظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ويقلب صفحاتها؛ ويحرص أشد الحرص أن يأخذ منها بالنصيب الأوفر.
لقد أعطى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم المنزلة التي ليست لأحد من العالمين, وبوأه المقام المحمود الذي لا ينبغي لأحد سواه.
وبالرغم مما أعطاه الله عز وجل من المكانة وجميل الصفات إذ به يزداد تواضعاً، حتى بلغ صلى الله عليه وسلم غايةَ التواضع وصار مضرب المثل في هذا الخلق العظيم .
ومن تأمل سيرته العطرة؛ رأى كيف أنه صلى الله عليه وسلم قد جعل هذا الخلق واقعاً ملموساً تتلذذ بسماع أخباره القلوب والأذان.
سئلت عائشة رضي الله عنها: ما كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته؟ فقالت: كان يكون في مهنة أهله, فإذا حضرت الصلاة خرج فصلى.
وقالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراً من البشر، يفلي ثوبه؛ ويحلب شاته؛ ويخدم نفسه, ويصنع كما يصنع أحدكم في بيته، يخصف نعله ويرفع ثوبه».
وفي هذا الحديث بيان أن المرء يفعل في بيته ما يفعله الرجال عادة من الأعمال التي يحتاجون إليها أو يحتاجها أهلوهم .
ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه كان يجيب دعوة الفقير والمملوك, ويحضر مجامع الناس في الخير, قال أنس رضي الله عنه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المرضى, ويشهد الجنائز, ويلبي دعوة المملوك».
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «لو دعيت إلى كراع لأجبت, ولو أهدي إليَّ كراع لقبلت».
وفي هذا ضرب المثل في الكراع وليس الذراع, لأنَّ كراع الشاة لا يدعى عليه ولا يؤكل، ولكن كل ذلك ليبين مقدار التواضع الذي كان عليه صلى الله عليه وسلم، والذي ينبغي أن يكون المسلم متصفاً به.
وكان صلى الله عليه وسلم يركب المتواضع من الدواب, فقد حدّث عنه أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يركب الحمار قال: ولقد رأيته يوماً على حمار خطامه ليف.
وهذا يدفع ما عند الناس من الظن الخاطئ، أن المركب إذا كان فارهاً أدَّى إلى توقير صاحبه ورفع مقامه, فإن المركب لا يوقِّر صاحبه توقيراً حقيقياً, بل هي بهرجة مزيفة توشك أن ترحل برحيل ما وُقِّر من أجله.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يعود المرضى مهما كان قدرهم وشأنهم، وهذا من جميل تواضعه وخفض جناحه للضعفاء, حتى أثر بهم ذلك أبلغ التأثير.
ومما جاء في ذلك أن غلاماً يهودياً كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم؛ فمرض؛ فعاده النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: «أتشهد أن لا إله إلا الله, وأني رسول الله؟»، فنظر الغلام إلى والده، فقال له أبوه: أطع أبا القاسم. فقالها فمات, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار».
فتأمل تواضعه صلى الله عليه وسلم في زيارة غلام يهودي حتى استمال بذلك قلبه وقلب والده بسبب تواضعه العظيم وحسن سجاياه, حتى أثر ذلك بهما الأثر الذي لم يملكا معه أن يردّا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لهما إلى الخير؛ لما علما من كرم أخلاقه وشديد نصحه.
وقد كان صلى الله عليه وسلم قريباً من الناس, من أراده سَهُل وصوله إليه, ولم يحتج إلى أن يبحث عن الشفاعة تلو الشفاعة حتى يصل إلى مراده، ولربما انقطع سعيه دون ذلك.
ذكر الحسن رحمه الله النبيَّ صلى الله عليه وسلم يوماً, فقال : «لا والله, ما كانت تغلق دونه الأبواب, ولا يقوم دونه الحُجّاب, ولا يُغدى عليهبالجفان-أي الصحون الكبيرة-، ولا يراح عليه بها, وكان بارزاً؛ من أراد أن يلقى نبي الله صلى الله عليه وسلم لقيه, وكان يجلس على الأرض, ويوضع طعامه بالأرض, ويلبس الغليظ, ويركب الحمار؛ ويردف عليه, ويلعق والله يده؛ صلى الله عليه وسلم».
وقد جاءه رجل يوماً فلما قام بين يديه ارتعدت فرائضه, فقال له صلى الله عليه وسلم: «هوِّن عليك, فإني لست ملِكاً, إنما أنا ابن امرأه من قريش كانت تأكل القديد»، والقديد: هو اللحم المجفف بالشمس.
ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه كان يسلَّم على الصبيان؛ ويمسح على رؤوسهم, ويدعو لهم بالبركة, وكان يُكنِّى بعضَهم؛ فيقول مازحاً: «يا أبا عمير, ما فعل النقير».
وكان صلى الله عليه وسلم يمرُّ بالنسوة فيسلَّم عليهن، ويمشي مع الأرملة حتى يقضي لها حاجتها, ويمشي في حاجة المسكين حتى ينجزها، قال ابن أبي أوفى: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأنف ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين قيقضي له حاجته, وإن كانت الوليدة من ولائد المدينة –أي: الجارية الصغيرة- تجيء فتأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم، فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت».
وقال أنس رضي الله عنه: إن امرأة كان في عقلها شيء –أي: من الجنون أو السفه- قالت: يا رسول الله: إنَّ لي إليك حاجة, فقال صلى الله عليه وسلم: «يا أم فلان, انظري أيَّ السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك, فخلا معها في بعض الطرق يناجيها حتى قضت حاجتها».
ومع ما أعطاه الله من المنزلة العالية الرفيعة فقد كان يمشي هوناً, لا يزاحم الناس؛ ولا يشق عليهم في طرقاتهم؛ ولا يؤذيهم في مجتمعاتهم, قال قدامة بن عبد الله: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة-أي: جمرة العقبة يوم الحج- على ناقة شهباء، لا ضرب؛ ولا طرد؛ ولا إليك إليك»، أي : لا يضرب أحداً، ولا يطرد أحداً، ولا يقول: افتح الطريق.
ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل الرجل الأجنبي إلى مجلسه مع أصحابه لم يعرفه, حيث إنه لم يتميز عن أصحابه بهندام أو لباس أو طريقة جلوس.
قال أبو ذر رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهر أصحابه؛ فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل: أيكم ابن عبدالمطلب؟
وكان صلى الله عليه وسلم يأكل أكلة المتواضع لم يتميَّز بهيئة معينة, ولا بصبغة خاصة، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: قلت: يا رسول الله؛ جعلني الله فداك, كل متكئاً فإنه أهون عليك, فقال: «لا, بل آكل كما يأكل العبد, وأجلس كما يجلس العبد».
إنَّ من تأمل هذه السيرة الجميلة, علم منزلة التواضع التي حثَّ عليها النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً, وعلم أن غاية التوفيق للعبد أن يهديه الله تعالى لأن يكون من المتصفين بها, فإنَّ التواضع من العبادات التي تقرِّب العبد إلى ربه سبحانه فينال بها رضوانه, قالت عائشة رضي الله عنها: «إنكم تتركون خير أعمالكم التواضع».
وعلى قدر ما يكن المرءُ متواضعاً على قدر ما يفتح الله له قلوباً مغلقة, وعلى قدر قربه منهم سيتلقون منه ما يمليه عليهم من الخير والهدى.
وبالتواضع يزداد المرء رفعة في الدارين؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من تواضع لله رفعه الله».
ومن أعظم الخسران أنَّ أناساً لبَّس عليهم الشيطان أنهم إذا تواضعوا للناس تجرءوا عليهم؛ وجهلوا قدرهم؛ فتراهم منقبضين عن الناس في كلامهم وطريقة سلامهم؛ حتى رفضهم الناس ولم يتقبلوهم, فعاشوا في غربة نفسية إلى أبعد مدى, وبعضهم قد لا يكتشف ذلك إلا بعد فوات الأوان, فتجده يحاول الاستدراك؛ ويتكلَّف غيرَ ما ألفه الناس منه فيزداد هماً إلى غم, ولو أنه وطَّن نفسه على التواضع من أوَّل أمره، مع مراعاة احترام ذاته؛ لعاش عيش السعداء.
هذا وإنَّ أكثر الناس حاجة إلى التواضع والعمل به الدعاةُ إلى الخير والرشاد, لكون هذا الخلق مفتاحاً إلى قلوب الناس؛ وأولى الناس أن يتواضعوا لهم مَن كانوا على طريق الاستقامة؛ قال تعالي: (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين)، وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتدَّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم).
قال البغوي رحمه الله : «أذلة على المؤمنين، يعني: أرقاء رحماء, كقوله تعالى: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة)؛ ولو يرد به الهوان, بل أراد أن جانبهم لين على المؤمنين، يعني: أنهم متواضعون«، وقال عطاء: أذلةٍ على المؤمنين, كالولد لوالده, والعبد لسيده».
ومن أشد الأمور قبحاً واستنكاراً؛ أن يكون المرءُ ظاهره الخير, ومع ذلك يعامل الناس معالة غير الواثق من نفسه، فتراه منقبضاً بلا سبب.
وأَعظمْ به سوءاً أن يندفع إليه الناس فرحين بلقائه, فيستقبلهم بسلام بارد, ووجهٍ مكفهر، وحقيق بهذا قولُ سعيد بن عبد الرحمن: يعجبني من القراء كل سهل طلق, فأما الذي تلقاه ببشر ويلقاك بوجه عبوس؛ فلا كثَّر الله في المسلمين مثله.
تواضع تكن كالنجم لاح لناظرٍ
على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تكُ كالدخان يرفع نفسه
على طبقات الجو وهو وضيع