الحمد لله الواحد القهار، حكم بالفناء على هذه الدار، وبالبقاء في دار القرار، (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ) [النور:44] ، وأشهد أن لا إله إلا الله العزيز الغفار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وتفكروا في أحوالكم وسرعة زوالكم، بالأمس القريب كان المسلمون ينتظرون دخول شهر رمضان المبارك انتظارا قدوم الضيف الغالي، والوافد الكريم، طمعاً فيما أعده الله فيه من الخيرات، ورغبة في التنافس في الطاعات، فهو موسم تعرض فيه أغلى السلع بأرخص الأسعار، تعرض فيه الجنة الغالية، حيث تفتح أبوابها، وتيسر أسبابها، تعرض فيه المرابح العظيمة، بحيث يعدل فيه ثواب السنَّة ثواب الفريضة، وثواب الفريضة ثواب سبعين فريضة فيما سواه، موسم تسد فيه طرق الهلاك، فتغلق فيه أبواب النيران، ويصفد فيه كل شيطان، تهجر فيه المحرمات، ويسهل فيه فعل الطاعات، موسم يغلب فيه سلطان الصبر، على سلطان الهوى والجزع، يغلب فيه صفة الكرم والجود على صفة الشح والبخل، يغلب فيه العقل والحكمة، على الطيش والسفه "فإن سابَّه أحد أو قاتله، فليقل إني صائم"
موسم كل وقته عظيم مبارك، فنهاره صيام، وليله قيام، أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، موسم يتغلب فيه المسلم على نزعات النفس ونزعات الشيطان، فلئن كان الإنسان أسيراً للنفس والشيطان قبل حلول هذا الشهر بحيث كان يصعب عليه ترك ما اعتاده من المعاصي بحكم ضعف النفس وقلة الإيمان، وبحكم مخالطة الأشرار، فإن شهر رمضان المبارك يخلصه من هذا الأسر وينقله من المجتمع الفاسد إلى المجتمع الصالح. فلا يرى من حوله إلا من هو صائم قائم، فرمضان في الحقيقة مدرسة يتلقى فيها المسلم دروس الخير المتنوعة، ويتعود فيها الابتعاد عن الشر وأسبابه، فما ينتهي رمضان إلا والمؤمن قد ألف الخير ونفر عن الشر. مما يكون سبباً لاستمراره على الاستقامة بقية السنة. فمثلاً الذي كان يتكاسل على الصلاة مع الجماعة ولما حل عليه شهر رمضان التزم الصلاة مع الجماعة وأدرك خطأه فيما مضى وصحح خطته في المستقبل، المدخن الذي فتك به تناول الدخان وأضر بصحته وهو يستصعب تركه. لما حل عليه شهر رمضان المبارك خلصه من أسر هذا الخبيث الضار ودربه على تركه. فأصبح من السهل عليه مقاطعته نهائياً –وهكذا بقية العادات السيئة. وإذا كانت الحكومات تضع دورات تدريبية للعاملين فيها ليتمرنوا على مختلف الأعمال، فإن شهر رمضان يعدّ من أعظم الدورات التدريبية على فعل الخيرات وترك المنكرات..
أيها المسلمون: بالأمس القريب كنا نترقب حلول هذا الشهر المبارك، واليوم- بكل مرارة وأسى- ننتظر انتقاله ونهايته، كما هي سنة الله في خلقه: أن لكل مقيم في هذه الدنيا ارتحالاً، ولكل موجود زوالاً، فلننظر في واقعنا مع أنفسنا ونوازن بين حالتنا قبل دخول هذا الشهر وحالتنا الحاضرة، هل صلحت أعمالنا، هل تحسنت أخلاقنا، هل استقام سلوكنا، هل لانت قلوبنا، هل زادت رغبتنا في الخير وكراهتنا للشر- إن كنا كذلك فقد استفدنا من رمضان –فلنحمد الله على هذه النعمة ولنحافظ عليها في بقية الأشهر ولا نفرّط فيها فنكون (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً) [النحل:92] ومن لم يدرك من نفسه هذا الشعور بالخير عند نهاية شهر رمضان، فليعلم أنه لم يستفد منه، وأنه لا يزال في غيه. ولكن لا ييأس من رحمة الله بل عليه أن يتوب إلى الله، يتوب على من تاب (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) [الشورى:25] ، وليحسن الختام- فإن الأعمال بالخواتيم.
عباد الله: لئن انقضى شهر رمضان المبارك فإن عمل المؤمن لا ينقضي إلا بالموت: "ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت". ومن علامة قبول الحسنة فعل الحسنة بعدها.
عباد الله: إن الله شرع لكم في ختام هذا الشهر المبارك أعمالاً مكملة له زيادة لكم في الخير، فشرع لكم صدقة الفطر –طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، وشكراً لله على توفيقه، وهي زكاة عن البدن، يجب إخراجها عن الكبير والصغير والذكر والأنثى والحر والعبد، ويستحب إخراجها عن الحمل في البطن –يجب إخراجها على كل مسلم غربت عليه الشمس ليلة العيد وهو يملك ما يزيد عن قوت يومه وليله، ويجب عليه أن يخرج عن نفسه وعمن تلزمه نفقته من زوجته ووالديه وأولاده –وإن تبرع بنفقة شخص في شهر رمضان استحب له أن يفطر عنه. ويخرج زكاة الفطر في البلد الذي وافاه تمام الشهر وهو فيه، ويخرج من يلزمه الإخراج عنهم مع زكاة نفسه، وإن وكلهم أن يخرجوا عنه وعنهم في بلدهم أو وكل غيرهم جاز ذلك، وتدفع زكاة الفطر إلى من يجوز دفع زكاة المال إليه كالفقراء والمساكين، فيدفعها إلى المستحق أو إلى وكيل المستحق.
وأما ما يفعله بعض الناس من إيداع زكاة الفطر حتى يأتي المستحق ويأخذها من المودع وهو غير وكيل له، فهذا لا يجوز ولا يعتبر إخراجاً لها في وقتها، لأنه لا بد من وصولها إلى المستحق أو إلى وكيله في وقت الإخراج، ووقت الإخراج يبدأ بغروب الشمس ليلة العيد، والأفضل ما بين صلاة الفجر وصلاة العيد –وإن أخرجها قبل العيد بيوم أو يومين جاز. وإن أخرها عن صلاة العيد أثم وأجزأت، وإن فات يوم العيد ولم يخرجها، فإنه يقضيها ولا تسقط عنه، ومقدار صدقة الفطر: صاع من بر أو صاع من شعير، أو صاع من أقط أو صاع من تمر أو صاع من زبيب، هذه الخمسة التي ورد بها النص. ويجزئ بدلها ما يغلب استعمال الناس له قوتاً في البلد كالأرز والذرة والدخن، ولا يجوز إخراج القيمة بأن يدفع دراهم بدل الإطعام، وإن أفتى به بعض الناس- لأنه خلاف النص- ويجوز للفقير إذا قبض صدقة الفطر أن يخرجها عن نفسه.
أيها المسلمون: ومما شرعه الله لكم في ختام الشهر: التكبير- قال تعالى: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) [البقرة:185] فيسن التكبير ليلة العيد والجهر به في المساجد والبيوت والأسواق تعظيماً لله وشكراً له على تمام النعمة. ومما شرعه الله لكم في ختام هذا الشهر المبارك: صلاة العيد، وهي فرض كفاية، وهي من تمام ذكر الله –قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى *وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) [الأعلى:14-15] ، قال بعض السلف: أي أدى زكاة الفطر (فصلى) قيل: المراد صلاة العيد..
أيها المسلمون: ودعوا شهركم بالاستغفار والتوبة وكثرة الدعاء لعلكم تكتبون من العتقاء من النار –أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة:185] .