مشكلة الثقافة تبدأ في طرق نشرها , لأننا نلاحظ أن القراءة في تقهقر , وأن الكتاب قد أخذت منزلته في النفوس تضعف وذلك لأن وسائل الحضارة المادية الأخرى أخذت تحل محله , فالتلفاز ووسائل الإعلام الأخرى تزاحم الكتاب , والناس المرهقون بالجهد العصبي الذي تتطلبه حركة الحضارة الآلية يركنون إلى أقل الجهود , فيكتفون بأن يسمعوا ويشاهدوا دون أن يتعبوا أنفسهم في القراءة , وفي هذا مشكلة كبرى على مستقبل الإنسان وذلك لأمرين :
أولهما : لأن كل ثقافة حقيقية هي " اختيار" و"مجهود" وأنت لا تختار ما تسمعه وتراه في وسائل الإعلام , كما أنك لا تستطيع أن تتثقف ثقافة خصبة مالم تبذل مجهوداً , فتصبر على قراءة الكتّاب العميقين , وهؤلاء عادةً لاتُسلم الصفحة التي يكتبونها كل ما بها عند القراءة الأولى , فلا بد لك من معاودة قراءتها والنظر فيها بإمعان , وأنت عند كل قراءة جديدة تكتشف معاني دفينة , وتستوحي آراء جديدة تخصب فكرك وتفتح أمامك آفاقاً لم تعهدها , وكل هذا غير ممكن باستماعك إلى الراديو أو مشاهدتك التلفاز والقنوات الفضائية التي تتدفق كالسيل , حاملةً إليك أخلاطاً من كل شيء
وحتى تصفحك لمواقع الانترنت لايجدي شيئاً , ولا يمنح ثقافة عميقة , لأن من أعطى جزءاً من وقته لكل شيء خرج في النهاية بلا شيء .
ثانيهما : أن هذه الوسائل الآلية العامة ستنتهي بأن تقتل الفردية , فكل الناس يسمعون ويشاهدون الأحاديث والمشاهد نفسها , وفي هذه الحالة سينتهي بهم الأمر إلى أن يصبحوا جميعاً نُسخاً متشابهة لا أصالة لأي منها , فتصير عقليتهم عقلية القطيع , والحكومات اليوم هي من أحرص الناس على هذه الثقافة بتعميم تلك الوسائل , وذلك لكي يستخدموها كوسائل لنشر آرائهم وتلوين الشباب باللون الذي يريدونه , وهذا ما نخشاه , لا لأننا نضن بانتشار المعرفة بين جميع طبقات الشعب , بل لأننا نود أن نسمو بالثقافة عن الانحطاط إلى مستوى الدعاية لأي مذهب كان , نريدها حرة وغاية مكتفية بذاتها , وفي تكوينها لإدراك الإنسان من النبل ما يجب أن تكتفي به , وعندما يتكون إدراك الأفراد سيستطيعون أن يتحكموا كما يريدون في مصائرهم ومصائر وطنهم .
وإن من دواعي الدهشة , أن نرى تلك الحضارة التي لا تعرف رعاية لأعصابنا تصبح رفيقة كل الرفق بنا , عندما تعمل على تجنيبنا المجهود العقلي الذي هو الكفيل الوحيد بكل ثقافة حقيقية . وكل مجهود بلا ريب أمر شاق , ومشقة المجهود العقلي يضاعفها أن نفعه قلما يكون مباشراً , ومعظم ذوي النفوس الساذجة يرهبون المجهود العقلي , وهم يفضلون مجهوداً بدنياً عنيفاً طويلاً على تلك الرياضة العقلية التي لم يألفوها , والتي تلوح ثمارها مرةً غير موثوق بها . وإنه لمن اليسير أن ينصرف عن المجهود العقلي كل أولئك الناس الذين أرهقتهم مطالب حضارة لم تعد تعرف المهادنة