يحسب الإنسان أنه لكثرة معارفه و غزرة معلوماته و خزين خبراته قد لامس النجوم و بلغ مراتب التمام و الكمال إلا انه يقف مشدوها أمام أبسط التجارب التي قد تقابله في حياته فيدرك أنه ما زال في مرحلة البداية لا يستحوذ من العلم إلا القليل أو يفضي إلى قول الفيلسوف اليوناني سقراط " كل ما أعرف أنني لا أعرف شيئا.."
هذا ما أراد ان يعبر عنه أحد أصدقائي الأفاضل من القادة القدامى بسرد إحدى تجاربه العفوية الجديدة دون أن يقصد استحداث مقاربات حديثة في حقول التربية العامة و الكشفية أو ابتكار مهارات بيداغوجية جديدة قد يطلق عليها نظرية الإشارات و الإيحاءات في التدريب الكشفي.. بكل بساطة هي قصة قصيرة فيها كثير من المدلولات و الفوائد يتعلم منها المعلم و القائد الأسلوب الأمثل في توجيه و تربية أفراده.
و هذه القصة كاملة حسب ما رواها صاحبها فإليكموها:
في احدى المخيمات الكشفية قمت بتفقد الكشافين أثناء التجمع الصباحي في إطار عملية تكوينية بسيطة كلفني بها القائمون على المعسكر بعد أن أمرت رؤساء المجموعات بالقيام "بعملية التتميم" فوقع ناظري على أحد الكشافين أساء ارتداء بزته الرسمية و ترتيب لواحقها فضلا عن عدم جاهزيته للتدريب و الامتثال لأوامر القائد.. فناديت عليه فأتاني متثاقلا يبدي كثيرا من الاستياء و عدم الرضى فأمرته بالوقوف ثم خاطبت زملاءه من الكشافين موضحا بعض نقائص اللباس و غياب شاراته فلاحظت و انا أقوم بشرح بعض التقاليد المهمة أن الكشاف المعني لا يعير اهتماما لما أقول بل بانت على وجهه ملامح الغضب و الاستياء فأمرته بالانصراف و انتهت تلك الفترة بما حملته من أقوال و أفعال و ردودها.
لم أدرك أبدا أن ذلك الكشاف الذي ظهر فيما بعد عريفا أول أنه جاد في موقفه و لم أخال أنه سيكن لي بعض الضغينة لما ارتكبته من مخالفة لتقاليده التي اعتادها مع قادته الأصليين فراح يظهر لي عبوسا مستفزا عند كل التقاء أو لقاء في الساحة أو المطعم..طبعا لا سلام و لا كلام فاعتدت الأمر و تركت الحال على حاله و لم أرغب في التحدث اليه في تلك الآونة مرجئا المعالجة إلى وقت آخر.
بعد تحية العلم و تناول فطور الصباح جاء دور البيت الجميل أين يقوم أفراد الطليعة (المجموعة) بتنظيم خيمهم (غرفهم) بكيفية جميلة جذابة يراعى فيها شروط التهوية و النظافة و بعض أعمال الريادة و غيرها فقدمت رفقة مجموعة من القادة لنعاين و نقيم مختلف المجموعات على تفننهم في القيام بهذا النشاط ..عند وصولي لنفس الطليعة التي ينتمي إليها (العريف الأول) اصطف الجميع و أدوا معا التحية الكشفية فحييتهم و شكرتهم على الاستقبال الرائع و رحت أتفقد أفراد الطليعة إلى أن وصلت عريفهم (الزعلان) فأعجبني اهتمامه هذه المرة بكل تفاصيل الزي الكشفي و لا حظت ان منديله كان موضوعا بطريقة دقيقة ملفتة للإنتباه فعرفت أن الدرس أثمر رغم ما حصل فأشرت باصبع الإبهام دلالة على أسمى درجات الرضى على ما بدر من صاحبنا من تقدم في تلك الأمور التنظيمية فرأيت نصف ابتسامة تخفي الكثير من الغبطة و الارتياح بعدها بدقائق يسيرة فوجئت بالعريف يتودد إلي بكل السبل و يسألني فيما أرغب في المساعدة بالقيام بشيء يفيد مشروع المعرض الداخلي في المخيم.
قد نحاضر أحيانا لمدة زمنية قصيرة او طويلة ..و قد نبذل الجهد الكبير في النصح و الإرشاد .. لكن أحيانا إشارة فقط قد تعني الكثير.