قصر الأحزان
في نهاية الطريق المؤدي إلى المزرعة التي كان خالي يملكها، كان يطل القصر بقبته وعظمته التي توحي بأنه شيد في القرون الوسطى، كنت حين أذهب إلى المزرعة يستوقفني القصر، لم أمل النظر إليه، كان به سحرًا وغموضا، يزداد غموضه مع الأشجار الملتفة حول أسواره الضاربة في الطول، لم تمتد يد لتشذيبها، الحكايات المتداولة عن القصر قليلة، لكن المؤكد أنه لأرملة تعيش مع ابنتها، منذ زمن طويل، أبواب حديقة القصر لا تفتح سوى مرتين مرة صباحًا وأخرى عند الظهيرة حين يعود العم سليم ذو القامة الطويلة المحدودبة حاملا ما اشتراه من سوق البلدة القريبة، حاولت مرارًا أن أسأل خالي عن القصر وساكنيه، لم أحظ بإجابة، كان يمط شفتيه ويهز كتفيه معربًا عن جهله بأية معلومات تخص القصر أو سكانه، تبسم مرة وهو يسألني في دهشة: ولماذا يشغلك هذا القصر لهذا الحد؟، لم ادر بما أجيبه سوى بابتسامة باهتة .
مرت الأيام وكلما مررت يلح علي خاطر باقتحام أسرار هذا القصر، واتتني الفرصة حين تقابلت مصادفة والعم سليم أثناء خروجه من البوابة، في الستين من عمره، أسمر البشرة، نقشت الأيام على وجهه تجاعيد غائرة لم تستطع إخفاء صفاء بسمته وهو يطالع الشغف بوجهي، جمعنا الطريق الوحيد الصاعد إلى البلدة، صمت برهة قبل أن تتمتم شفتاه بسؤال بد الي كأنه يحادث نفسه، فطنت إلى كلماته حين أعادها بصوت عال، أردفت: مجاوبًا نعم أنا قريب صادق بيه، ابن أخته، تبسم وهو يحث الخطى، باغته بسؤالي: كم لك من السنين وأنت هنا، سرح ببصره وكأنه يحاول عد السنين، همس في لطف: ربما ثلاثون سنة، أردف: الطريق طويلة إلى سوق البلدة، ألمح شغفا على وجهك، سأقص عليك حكاية قدومي إلى هنا، إذا كان هذا يهمك، سارعت بالرد في لهفة: ليتني أعرف قصة هذا القصر، أقصد قصتك معه، عادت ابتسامته للظهور وصوته الهادئ يسرد .
منذ ثلاثين عامًا كنت شابًا أبحث عن عمل، درت يمينا وشمالا، رمت بي الأيام عند أحد البشوات، عملت لديه سنتين، حين جاءت الثورة أتت على أمواله، كان قد أحبني لأمانتي وإخلاصي معه، فكر في ترك البلد والرحيل إلى خارج الوطن، حين أخبرني شعرت بالحزن، لم أتفوه بكلمة، لكنه كان معي نبيلا إلى أقصى حد، حادث صديقه صاحب هذا القصر الذي أعمل به الآن، أوصاه بي خيرًا، جئت إليه ولم يمض وقت طويل حتى صار يثق بي كل الثقة، تضاءلت ثروته وتركه أغلب العاملين عنده، وبقيت أنا، زادت الصلة بيننا لم يشعرني يومًا أنني خادمه، كنت آكل مما يأكلون منه، يشركني في أمسياتهم هو وزوجته وابنته، عاملني كفرد من أسرته، وبقيت أحمل له جل احترامي وأعامله بما يستحق من احترام وتقدير، كان به من بقايا الماضي ما يسعده بتبجيلي له، وكنت أرى فيه رمزا كبيرًا من زمن ولي، وأبقاه هو كنفحة من عبق زمان عشقه وعشقته، أعادت له الثورة بعضًا من أملاكه وأمواله، انتعشت حالته لكنه لم يفكر يومًا في العودة لحياة البذخ التي كان يحياها ولم يفكر في استقدام خدم غيري، كانت زوجته رائعة الجمال وكذا ابنته التي ورثت جمالها عن أمها، شعر بأن الأيام عادت لتضحك له واستمر في رقته معي، كان يذكرني بالزواج كل فترة ويشجعني بأنه على استعداد لتحمل كافة النفقات، وكنت أنا من يختلق الأعذار ويتهرب، لا اعلم لم؟، ربما كنت سعيدًا بحياتي هكذا وأشعر بأهمية ما أقوم به وأنا أشرف على كل كبيرة وصغيرة بالقصر، بل وأهتم أيضا بابنته شاهيناز، ولأن الأيام إذا ضحكت لا تطيل الضحك فقد فاجأنا مرضه، شعر بدنو أجله بكى على ذراعي، استحلفني ألا أترك زوجته وابنته، أقسمت له ودموعي تغطي وجهي، فارقتنا روحه في نفس الليلة، ذهلت زوجته، اقتربت من حافة الجنون، ابنته أصيبت بالشلل حزنا على والدها التي كانت تحبه بجنون، انقلب الحال، وجثم الحزن على كل من بالقصر، مرت الأيام ونحن نجتر أحزاننا، لم يفلح شيء في إخراجنا من دائرة الحزن، يطبق علينا القصر بجدرانه، حادثت السيدة أن تبيعه، وأن ننتقل لمكان آخر، رفضت رفضا قاطعًا، بكت وهي تسرد لي كيف احتوت جدرانه قصتهما معًا من أول يوم تزوجا، وكيف أن لكل ركن ذكرى حلوة، لم أستطع إقناعها، غضبت، خيرتني أن أرحل ولن تلومني إذا كانت هذه رغبتي، بكيت وانصرفت، ولم أعد أفاتحها في هذا الأمر، أوقفت حياتي على خدمتهما هي وابنتها القعيدة، توقف عن السرد التفت إلي، كانت دموعي تشق طريقها عبر وجنتيّ ولسان حالي يقول: ليتني ما سألت .