الخريجون الجدد في الصين.. أحلام ضائعة في مدن كبيرة
"قبيلة النمل"عبارة يتداولها علماء الاجتماع الصينيون لوصف الشباب المتعلّمين المهاجرين
في بكين وحدها يصل أعداد الخريجين الباحثين عن العمل إلى حوالي 100 ألف شاب
يصف باحث اجتماعي الخريجين بالنمل لأنهم يعيشون فيما يشبه مستعمرات النمل
الفجوة بين المناطق الحضرية والريفية في الصين بلغت ذروتها العام الماضي
يحمل خريجو الجامعات في بلد المليار نسمة على أكتافهم أحلامهم البسيطة
وينطلقون باحثين كالفراشات عن وظائف تجود عليهم بأقل ما لديها من دُريهمات
علّهم يصلون بها إلى طموحاتهم التي قد تحترق في أول الطريق وليس في منتصفه
أو نهايته .هكذا هم الخريجون الجدد من الجامعات الصينية الذين يشدون
الرِّحال وأحلامهم إلى المدن الكبيرة لكنهم يصطدمون هناك بحقائق قاسية تكاد
تكون ذلك الجدار الذي تتكسر عنده كل الطموحات،ولا يعد هؤلاء الخريجون سوى
لاهثين وراء سراب ليسوا بالغيه.
"ليو يانغ" هي ابنة عامل في منجم للفحم ، وصلت إلى هنا في يوليو مع شهادة
جامعية عبارة عن دبلوم كلية حصلت عليه حديثا ، وفي محفظتها ما يعادل 140
دولارا لكن في داخلها رغبة لا تقهر للعمل. وتقول"ليو يانغ" بعد أن خطت
خطواتها الأولى وهي تنزل من القطار بعد ست ساعات قضتها على متنه وهي قادمة
من مقاطعة شانشي :"اعتقد أن حياتي الجديدة ستكون أفضل مما تصوّرت ،" لقد
كان إلى جانبها أربعة من زملائها من جامعة داتونغ ، وهم من الخريجين الجدد
الذي كان يركبهم التحدي من حيث رفضهم للأصوات المعارضة التي صدرت من داخل
أسرهم . لقد قالوا لهم إنهم سوف يجدون مشقة كبيرة في هذه المدينة التي
يقطنها حوالي 17 مليون نسمة.
وقد جاء اختبارهم الحقيقي الأول في ظهيرة ذلك اليوم عندما وضعوا حقائبهم في
أحد الأحياء المتداعية الذي لا يبعد كثيرا عن القرية الأولمبية حيث هناك
عشرات الآلاف من الشباب غيرهم من الذين يتجمعون معا للعيش في غرفة واحدة قد
تتسع لأربعة شباب.لقد أصيبت الآنسة ليو- التي عملت كل ما في وسعها من اجل
العثور على سرير وغير مرتاحة لتلك المباني التي تتراكض فيها الأرانب
-بالغثيان من رائحة القمامة التي فاحت من حولها ،وربما أجبرها الموقف على
القول "إن بكين ليست هكذا في الأفلام".
ويتداول علماء الاجتماع الصينيون عبارة "قبيلة النمل" وهي التي يصفون بها
المهاجرين من الشباب المتعلمين من أمثال الآنسة ليو وذلك في إشارة إلى
أعدادهم الهائلة التي تصل إلى ما لا يقل عن 100 ألف شاب في بكين وحدها،كما
أنها إشارة إلى حقيقة مفادها أنهم في كثير من الأحيان يعمدون إلى السكن في
الأحياء المزدحمة ، يكدحون من أجل العمل في محلات البيع الزهيدة الثمن
ومكاتب الوظائف للحصول على الأجور التي من شأنها أن تعطى حتى لعمال المصانع
منخفضِي الأجر.
ويقول تشو شياو تشنغ الأستاذ المتخصص في علم الاجتماع في جامعة رنمين في
بكين: "إنهم مثل النمل ، يتجمعون في مستعمرات ، وأحيانا تحت الأرض في
الأقبية ، وتجدهم يعملون لفترات طويلة، أعمالا شاقة". وفي الغالب يكونون
الأوائل في أسرهم الذين يتخرجون من المدرسة الثانوية ، وفي الحقيقة إنهم
جزء من موجة غير مسبوقة من الشباب المتعلمين الذين كان من المفترض أن
يحركوا الاقتصاد في الصين الذي يعتمد على العمالة لتحقيق مستقبل لاسيما من
خلال تلك الفئة من المتعلمين. في عام 1998 ، عندما قام الرئيس جيانغ تسه
مين بالإعلان عن خطط دعم التعليم العالي أصبحت الجامعات والكليات الصينية
تقدم 83 ألف خريج سنويا.وفي مايو الماضي كان هذا العدد أكثر من ستة ملايين
وهو آخذ بالارتفاع.
إن ذلك الرقم يعد انجازا رائعا. لكن حتى بالنسبة لحكومة تركز اهتمامها على
الاستقرار فإن هذه الأرقام في الحقيقة مدعاة للقلق أيضا ، خصوصا في المدن
حيث هناك الملايين من الخريجين المحبطين ،الذين يعيشون على تقاضي أجور
زهيدة، يمكن أن تكون ذات يوم تحدياً للحزب الشيوعي عبر اقتصاد غير مستقر
وبطالة مرتفعة. وكانت الحكومة المركزية في الصين ،التي تدرك جيدا المخاطر
الناجمة عن نمو غير متوازن ، تحاول توجيه المزيد من التنمية إلى المحافظات
الداخلية مثل شانشى من خلال تفكيك الصناعات المملوكة للدولة قبل عقد من
الزمن لأنها خلّفت مدنا تعاني من فقر الدم.
وعلى الرغم من جهود الحكومة ،إلا أنه مع ذلك بلغت الفجوة بين المناطق
الحضرية والريفية بالصين أوسع مدى لها في العام الماضي ، ويبلغ في المتوسط
ما يحصل عليه سكان الحضر 3.3 مرة أكثر من أولئك الذين يعيشون في الريف. إن
مثل هذا التفاوت ،وإغراء الثروة المذهلة في المدن الساحلية مثل شنغهاي
وتيانجين وشنتشن جعل الشباب الخريجين يواصلون القدوم إلى هذه المدن.
ويقول لي شو دونغ الذي يبلغ من العمر 25 عاما وهو واحد من زملاء الآنسة ليو
والذي كان والده بائعا متجولا للخَضْرَاوات: "بالمقارنة مع العاصمة
بكين،فأن مسقط رأسي في شانشي أشعر وكأنه ما زال عالقاً في محطة عقد
الخمسينيات ". وأضاف:" أذا بقيت هناك ، فسوف تكون حياتي فارغة ومحبطة."
وفي الوقت الذي قد يحد فيه بعض من أفراد قبيلة النمل على النجاح ، فإن هناك
الكثيرين الذين تستنزفهم التحديات وتحبطهم خيبات الأمل. ومن المكن أن تكون
الظروف المعيشية بمستويات ديكنزية(البؤس الذي اشار له الكاتب الانجليزي في
رواياته الشهيرة عن الفقر) إضافة إلى قسوة في العمل تستغرق ستة أيام في
الأسبوع. ولكن ما يجده الوافدون الجدد من جوانب لا تسرّ هي في العديد من
العثرات والمعرقلات التي وإن بذلوا المزيد من العمل الشاق لكنه لا يمكن لهم
التغلب عليها .
ان شهاداتهم الجامعية ، التي يكون الكثير منها عادة من مدارس ولايات الصين
النامية والتي هي من الدرجة الثالثة ، تجعلهم يكسبون القليل من الاحترام في
المدينة الكبيرة ، وكما هو حال أطفال الفلاحين أو عمال المصانع ، فإنهم
يفتقرون إلى الكثير ، بما فيها الجوانب الأساسية اجتماعيا للاتصالات
الشخصية التي سهلت ومهدت الطريق لأبناء الطبقة ممن اغتنوا حديثاً في الصين
وأولئك الذين لهم ارتباطات سياسية.
إن الذين نشؤوا من محميات سن المراهقة ممثلة بأسر ذات الطفل الواحد ، سرعان
ما اصطدموا بوجه هذه العقبات وغيرها، بما في ذلك نظام الهوكو ، الذي هو
عبارة عن بيروقراطية إدارة السكان التي تحرم على المهاجرين الإسكان المدعوم
وغيرها من المزايا التي يتمتع بها سكان المدينة المسجلون قانونيا.
وحتى من دون الزيادة الكبيرة في أعداد الملتحقين بالكليات ، فإن الخريجين
لا يزالون يسبحون ضد التيار فيما يتعلق بالمد الديموغرافي الذي زاد من
اعداد الصينيين ممن تتراوح أعمارهم بين العشرين والخامسة والعشرين الى 123
مليون نسمة ،أي بزيادة حوالي 17 مليونا أكثر مما كان عليه قبل أربع سنوات
فقط. ويقول بنغ اكسزهي ،وهو عميد كلية التنمية الاجتماعية والسياسة العامة
بجامعة فودان في شنغهاي:"ان الصين قد حسنت فعلا نوعية قوة العمل لديها ،
ولكن على الجانب الآخر ،فإن المنافسة لم تكن أبدا أكثر خطورة" .
ونظرا للتخمة في الخريجين العاطلين ، اقترح السيد بنغ إما أن يتحولَ الشباب
إلى مهن مثل التمريض والتدريس أو يقوموا بإعادة تقييم توقعاتهم. وأضاف "لا
بأس إذا كانوا يرغبون في محاولة البحث عن فرصة لبضع سنوات ، ولكنهم إذا
أطالوا البقاء طويلا في اماكن مثل بكين أو شنغهاي ، فإنهم سوف يجدون
المتاعب لأنفسهم ومشاكل للمجتمع" .
إن هذه الحقائق تميل إلى إنتاج خليط غريب من التفاؤل والايمان بالقضاء
والقدر بين خريجي الجامعات الجدد،لاسيما أولئك الذين لديهم خبرة بضعة أشهر
من الذين يعيشون في بكين. ومن بين الخريجين من جامعة داتونغ من الذين وصلوا
في الربيع الماضي مع "ليو يانغ" ، كان "لى يوان" الذي لا يزال عاطلا عن
العمل على الرغم من أنه وصل قبل عدة أشهر للحصول على التدريب. ويقول لهم
وهو جالس يأكل أحد أطباق الشعرية الرخيصة، والتي كانت وجبتهم الأولى في
العاصمة "إذا لم تكن ابنا لمسؤول أو لم يكن انحدارك من مراكز المال،
فالحياة ستكون مريرة بالنسبة لك ".وما ان تلاشت الأضواء أصبحت الشوارع تعجّ
بالشباب من الصرافين والباعة وموظفي الاستقبال الذين يتوجهون الى المنازل
،قاد السيد يوان أصدقاءه نحو أسفل الزقاق الرطب ومن ثم إلى الدرج المتعرج
الذي يؤدي الى غرفته ،التي هي بحجم عرض سرير ملكي الحجم.
كما أنه يشترك في استخدام المرحاض القذر مع عشرات من المستأجرين الآخرين.
وهناك منطقة مشتركة مع الجيران يستخدمون فيها نفس الطبق الساخن.
وابتسم السيد لي عندما استوعب المشهد. ومثل معظم الشباب الصينيين، كانت
حياته حتى تلك اللحظة تحظى بالرعاية، والمتابعة والتنظيم بشكل دقيق. ويقول
"أنا على استعداد للخروج إلى العالم ، واختبار نفسي بشكل حقيقي" . وأضاف:
إن الأشهر الخمسة المقبلة ستوفر المزيد من الاختبار وبشكل أكثر مما يتوقعه
هو أو يتوقعه الآخرون.
ولعدة أسابيع، كان السيد لي يشقّ طريقه من خلال معارض الوظائف التي تزدحم
بالشباب الخريجين ولكنه في النهاية يخرج خالي الوفاض.ويخبره إخصائيو
التوظيف أن شهادته الأكاديمية في المال عديمة الفائدة لأنه يعتبر دخيلاً
على هذا المجال، وبالتالي فإنه لا يمكن الوثوق به للتعاطي مع أسرار الشركة
وسيولتها النقدية. ولما وجد في نهاية المطاف وظيفة تتمثل ببيع الشقق لصالح
إحدى وكالات العقارات ، ترك العمل بعد أقل من أسبوع عندما نكث أرباب عمله
بشأن ما وعدوه من راتب حيث بدؤوا بتغريمه عن كل يوم يفشل فيه في جلب زبائن
محتملين للشراء.
وفي النهاية استقرّ السيد "لي" وأصدقاؤه في وظائف في شركة لمبيعات المكرونة
الجاهزة.وكان الراتب الشهري المبدئي 180 دولاراً فقط ينتهي إلى أن يكون
قريبا إلى حد ما من طموحات أرقام المبيعات المحتملة. ويرتدون قمصان الغولف
الأرجوانية التي كتب عليها العبارة الترويجية الخاصة بمنتج الشركة ، ويعمل
هؤلاء الشباب 12 ساعة يوميا حيث يعودون إلى المنزل بعد حلول الظلام
ليتناولوا وجبة من المكرونة السريعة التحضير.
ولان السيد "لي" باع فقط 800 عبوة من الشعرية في ذلك الشهر ،مما يعني ان
لديه نقصا بحوالي 200 عبوة في الهدف المرسوم للمبيعات ، فإن ذلك يعني أن
راتبه تلقى ضربة قوية. لكن كانت الأمور على وشك أن تكون أكثر صعوبة: لأنه
مع قدوم فصل الشتاء تكون هناك ذروة موسم تناول المكرونة مما جعل رئيسه
يضاعف مبيعات الحصص ، الأمر الذي أدى إلى المزيد من الضغوط على العمل الذي
كانت ظروفه قاسية في الأساس.
كانت هناك ضغوط أخرى أيضاً. قلقه الواضح عما إذا كان سيكون قادرا على
الزواج من حبيبته من أيام الثانوية في حالة إذا لم يتمكن من كسب ما يكفي من
المال لشراء منزل. إن هذه المخاوف متفشية بين الصينيين الشباب من الذكور ،
الذين يتعرضون للضغط من ارتفاع أسعار العقارات وثقافة أن يقوم العريس
بتوفير شقة. ويقول وصوته يأخذ نبرة المتأثر فيما يقوله " أبذل نفسي منذ
سنتين وليس من شيء'.
ومع حلول شهر نوفمبر بلغت الضغوط مداها وكان تأثيرها على اثنين آخرين من
داتونغ ، بمن فيهم "ليو يانغ" التي كانت لا تستطيع كبت ما تعيشه. وبعد أن
تركت شركة المكرونة وفشلها في ايجاد وظيفة أخرى استسلمت للأمر الواقع وعادت
من حيث أتت إلى ولايتها ،وهكذا غادر السيد يوان والسيد لى وصديقاتهم.
وخلال عشاء في إحدى الليالي اشتكى الأربعة من قسوة سكان العاصمة بكين،
وارتفاع تكلفة المعيشة والضجر من وظائفهم.
ومع ذلك ، فإنه الجميع تعهد بالتمسك بإيضاح ذلك الابتذال في السلوك من حيث
"تجرع المرارة." ويقول السيد يوان "الآن وبعد أن رأيت ما عليه العالم
الخارجي فان أسفي الوحيد هو أنني لم أعش المتعة لأقصاها في الكلية ".