كتبت: خولة القزوين
كان يقف متردداً، حائراً بينهما، يبحث في خيالاته الصاخبة عن ذلك القرار المريح الذي يسكن إليه ويفضي بمكنونه دون قلق، هاجس يتفتق كالبرعم الأخضر في متاهات فكره. زوجته الطيبة تخط ملامح التهذيب في وجه حياته وترسم بعروقها النابضة دربا معبدا بالصبر والروية، ثم الأخرى المتكومة في زوايا ظله تتغير نزقاً وحماسة تجنح به إلى علياء الأماني، وتبدد ببريقها الأخاذ ضباب الغموض الذي يحدق في سنواتها الخمسين...
نور يتسلل إليه بهوادة، ونار تستعر في عروقه بصخب، كلاهما حياته بنقائضهما الرائعة، وباختلاجاتهما المتضاربة.. أشياء تتجمع في كيانه لتمنحه إحساساً جميلاً يدغدغ روحه.
حدثته ((سلمى)) وهي تختال في بهجتها ترتسم على وجهها نداوة الصبا وإصرار الشباب
((إن انتظاري لك طال سنوات وأيام عمري أوشكت أن تذبل، فاحسم أمرك لنتزوج!)).
يتملل كعادته، ويعض على شفتيه وهو يستجمع صورتها الساطعة في ذهنه ((خسارة أن تضيع محبوبة عمره)) قال ليهدئ في ثورتها:
- تريثي، فزوجتي لا تتقبل الأمر بسهولة، دعيني أقنعها..أحتاج لبعض الوقت!
تعرض عنه غاضبة:
- سنوات وأنا انتظر حتى ذوبني أسرك في لجة القسوة والحرمان.
- يغرق في الصمت..
ويعود إلى شروده هائما في دنيا أحلامه تسترد زوجته وفاء وعيه لهنيهات:
- ما بك يا خليل؟! أراك تسرح كثيراً هذه الأيام! يتنهد وهو يفيق من شروده
- إنها مشاغل العمل.
فيخجل من نفسه المرتابة تتعلل بمغالطات وهي في الحقيقة صادية تبحث في متاهات الجفاف والرتابة عن غيث حب، ورشقات مطر ترطب هذه الشقوق التي تنخر أرضه الجرداء.
تقترب وفاء منه، تصب له الشاي وابتساماته المشرقة تضيء له ليل الغربة وتثرثر أنفاسها دفقا حانيا لا ينضب، يالها من معتوهة تسد أمامه كل الثغرات التي يترقبها عن كثب ليتسلل غلي المرمى ويقذف بالحقيقية، فيستريح من هذا العناء. يزدرد ريقه وعيناه ساهمتان، شاردتان في وله الحلم ولهفة الغائبة، ورغم أنهما وعن دون قصد مصوبتان ناحية زوجته، ففي قلبه المضطرب تختبئ العصفورة الحبيسة وتصرخ بوهن مذبوح وشوق متكتم، تسامره زوجته، تلك العالقة في واقعة كالوشم الأيدي، تصطبغ بلونه ومزاجه ومذاقه الخمسيني.. هتف والذهن شارد ((سلمى!)).
حدجته وفاء بنظرة حادة موسومة بالغضب، روعته.. تلعثم، يحاول أن يداري غلطته
((أقصد وفاء!)). ادركت بحدسها الأنثوي أن ثمة خطر يحدث في حياتها، ابتلعت الغصة بدهاء ليفتر ثغرها عن ابتسامه مفتعلة.
((يبدوا أن مشاكل الموظفات تلاحقك حتى وأنت في بيتك!))
استراح بعض الشيء فقد حملت عنه مشق الأعذار، لكنه استطرد يبدد الشك ((أحياناً أنادي بعضهن باسمك.... تصوري ذلك!!))
بيد أن الأمر لن ينطوي على وفاء بسذاجة، وإنما بيتت النية على خطة محكمة لتخترق ذلك المجهول الكامن وراء سلمى، لتسبر أغواره، ممسكة بهذا الخيط الواهن ليدلها على ذلك البئر الذي يغترف منه أحلامه، فغضباته المتهورة وتوتره المنهك، أرقه رغم إعيائه اليومي هو دخان نار تحترق في أعماقه بقايا هم دفين يختمر في وجدانه. فراقبته بصمت، وأرهفت كل حواسها لتلتقط همس تلفوناته، التاعت حتى كبلت صرخاتها الخرساء بأغلال الحكمة والروية الجوفاء، وعندما استجمعت كل خيوطه أدانته وعرفت عن غريمتها كل شيء اقتحمت عالمها المجهول وقذفت بنفسها كالمنتحرة لا تأبه بكل العواقب الخرقاء..
عنفتها.
- أنت لصة محترفة سرقت زوجاً من زوجته ودمرت أسرة آمنة. لو كنت حية الضمير ما فعلت كل هذا!
صعقت سلمى وهي تتأرجح في مكانها، الصدمة هوت فوق رأسها كالمطرقة الحادة.. واستردت وفاء تتوعدها
سأفضحك أمام الناس عندي أشرطة تسجيل بصوتك وأنت تبثين لواعجك لزوجي..
قاضعتها سلمى وهي تتراجع إلى الوراء....مبهورة الأنفاس..
- أرجوك كفى... لقد تبخرت كل هذه الأحلام وتبددت كسحب ندية في ليلة صيف ثم تحزم وفاء حقائبها دون أن تنبس بحرف...
- يشدها خليل من ذاعها وهو يستوقفها
- إلى أين؟
- إلى جهنم! اذهب إلى حبيبة القلب فأنا بانتظار ورقة الطلاق! تلعثم خليل، المفاجأة عقدت لسانه
- ما هذه الأوهام التي تدور في راسك؟!
شدت على اسم غريمتها صارخة
- سلمى معبودة عمرك أيها الخائن!
- أطرق خجلاً ووجهه يتضرج حمرة.. والكلمات ترتعش بين شفتيه أرجوك اهدئي، دعيني أصارحك بالحقيقة!
غضبت تنهره بشدة
- الحقيقية أنك خائن...خدعتني لسنوات..
اندفعت صوب الباب مغتاظة فصفقته بشدة وراءها.
بينما عاود خليل الاتصال بسلمى.. لكنها أقفلت التليفون بوجهه وحاول مراراً حتى أفضت إليه لآخر مرة وجموعها تنساب لوعة وحرقة.
- انتهى كل شيء بيننا وأنا الآن مخطوبة لرجل آخر.
- أطرق يفكر بمرارة، تتسلل الأحلام من جنباته الملتاعة كالسراب، يجد نفسه تائها ما بين اليقظة والشرود، يحدث نفسه في لوم، تلسعه سياط الحقيقة بحرقة.
((أيها الأحمق، حاولت أن تمسك العصا من الوسط ففشلت، وطمعك الساذج أوهمك انك تستطيع أن تأكل على شبع حتى هوت العصا فوق رأسك وخسرت الاثنتين فشربت المرارة وذقت طعم الحرمان))
-مع تحياتي للجميـــــــــــــــــــــــع-