بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إنَّ إصلاح النفس البشريَّة مهمَّة صعبة تَحتاج إلى مثابرة ومجاهدة وصدق وإخلاص، ومعونة من الله تعالى، إنَّ زمانَنا مليء بالفتَن الَّتي لا يسلم منها القائم والقاعد، ولقد صدق الحسَن البصري حينما قال: "ليس العجَب فيمن هلك كيف هلك، ولكن العجب فيمَن نجا كيف نجا".
وهناك أمور لو أدْرَكَهَا المرء واعْتنى بها فإنَّها تُعينه على سلوك طريق الصَّلاح؛ إذ إنَّ ترك النَّفس وعدم محاسبتِها قد يهلكها، ولقد صدق مَن قال: "ترك يومًا نفسِك وهواها سعيٌ لها في رداها".
وتلك بعض المعونات على الإصلاح والاستقامة:
الصحبة:
إنَّ الصُّحبة من أهمّ العوامل في صلاح النَّفس أو في إفْسادها؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المرْء على دين خليلِه، فلينظُر أحدُكم مَن يُخالل))؛ رواه أحمد وأبو داود، وحسَّنه الألباني.
بل قال بعضهم: لا صلاحَ بدون صحبة؛ لأنَّ الصحبة هي الَّتي تشكِّل الإنسان، فمِنْها يستقي الفهمَ والفِكْر والسلوك، وقد رأى أحدُ الآباء يومًا ابنَه يقلِّد شيخَه في مِشيتِه، فحمد الله أنَّ ابنه يقلِّد العلماء ولا يقلد غيرهم.
وأخذت امرأةٌ بأُذن ابنِها وقالت: "اذْهب إلى الإمام مالك فتعلَّم منه الأدب قبل العلم"، ومن الوصايا: "صاحب مَن يدلُّك على الله حالُه، ويقرِّبك من الله مقالُه، ولا تعصِ الله وأنت فى صحبته".
إنَّ المرء إذا أراد أن يصاحب أحدًا فليحذَرْ، فإنَّ الإنسان يُعْرَف بصاحبه، فإذا كان صالحًا وصف هو بالصَّلاح، وإن كان فاسقًا وُصِف بالفسق، قال الشَّاعر:
وَاحْذَرْ مُصَاحَبَةَ اللَّئِيمِ فَإِنَّهُ *** يُعْدِي كَمَا يُعْدِي الصَّحِيحَ الأَجْرَبُ
وفيما رواه أبو داود أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا تُصاحِب إلاَّ مؤمنًا ولا يأكل طعامَك إلاَّ تقي)).
ولقد رأيتُ مَن وقعوا في الجرائم المهْلِكة، وضاعوا في غياهب السُّجون وتشرَّد أولادُهم من بعدهم، ولمَّا سُئِلوا: مَن فعل بكم ذلك؟ أجابوا: الصُّحْبة السُّوء!
فصُحبة السوء يَجتمعون على معصية الله ولا يستَحْيون، تفوتُهم الصَّلاة ولا يتناصحون، يُخطِّطون للموبقات ولا يرْتَدعون، فلتنظُر - أخي - مَن تجالس ومَن تصاحب.
قال ابن الجوزى فى "صيد الخاطر": "لقد صاحبتُ مشايخ كثيرين، فما استفدتُ إلاَّ مِن شيخَين: الشَّيخ أبي منصور الجواليقي؛ وكان إذا حدَّث عن رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بكى، فكنت أقول: لأمرٍ عظيم يبكي هذا الشَّيخ، وكانت تحدث في نفسي قواعد من التَّربية، وأمَّا الشيخ الآخر فهو عبدالوهاب الأنماطي؛ وكان في قمَّة الورع، فاللهَ الله في العلم مع العمل؛ فإنَّه الفقه الأكبر".
الاستفادة من الوقت:
الوقت هو عمر الإنسان الَّذى يُتاجر فيه مع ربّه، والوقت أثْمن من الذَّهب، قال الشاعر:
وَالوَقْتُ أَثْمَنُ مَا عُنِيتَ بِحِفْظِهِ *** وَأَرَاهُ أَسْهَلَ مَا عَلَيْكَ يَضِيعُ
سأل الفضيل بن عياض رجُلاً يومًا، فقال له: كم مضَى من عمرك؟ قال: ستُّون سنة، قال: سبحان الله! منذ ستّين سنةً وأنت في طريقك إلى الله، قربت أن تصل، واعلم أنَّك مسؤول فأعدَّ للسؤال جوابًا.
وقال الشَّافعى - رحِمه الله -: "لقد صاحبتُ قومًا فتعلَّمت منهم أمريْن: نفسك إن لم تشغلْها بالحق شغلتْك بالباطل، والوقت كالسَّيف إن لم تقطعْه قطعك".
وفي الحديث: ((لا يتمنَّينَّ أحدُكم الموت إن كان محسنًا لعلَّه يزدَاد، وإن كان مسيئًا لعلَّه يستعتب)).
فإذا ضيَّع الإنسان وقتَه فقد ضيَّع عمره، ومن النَّاس مَن عرفوا قيمة الوقت ففازوا، وما زال ذكرهم باقيًا بيْننا نترحَّم الله عليهم لِما قدَّموه لنا من خير؛ قال الشاعر:
دَقَّاتُ قَلْبِ المَرْءِ قَائِلَةٌ لَهُ *** إِنَّ الحَيَاةَ دَقَائِقٌ وَثَوَانِ
فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ مَا يُخَلِّدُ ذِكْرَهَا *** فَالذِّكْرُ لِلإِنْسَانِ عُمْرٌ ثَانِ
ولكم تعجب ممَّن يضيعون أوقاتَهم فيما لا يفيد، فتراهُم يقْضون السَّاعات أمام الشَّاشات والمواقع، وفي لعب الورق، ويقولون: نقْتل الوقت، وفي الحقيقة هم يقْتلون أنفُسَهم!
إنَّ (أديسون) خاض 6000 (ستة آلاف) تجرِبة ليخترع المصباح الكهربائي، وكان يقول: العبقريَّة 1% إلهام و 99% عرق، وغيره الكثير من العُلماء الَّذين وصلوا إلى المجْد والعظمة لأنَّهم أحسنوا الاستِفادة من وقتهم، ولقد صدق القائل:
فِإِنْ كُنْتَ تؤْذَى بِحَرِّ المَصِيفِ *** وَيُبْسِ الخَرِيفِ وَبَرْدِ الشِّتَا
وَيُلْهِيكَ حُسْنُ جَمَالِ الرَّبِيعِ *** فَأَخْذُكَ لِلعِلْمِ قُلْ لِي: مَتَى؟!
وليحذرِ الإنسانُ من التَّسويف، وليعلمْ أنَّ عذاب أهل النَّار من كلمة (سوف)، قيل لأحد الحكماء: أوْصِنا، قال: "احذروا (سوف)".
فَمَا نَيْلُ المَطَالِبِ بِالتَّمَنِّي *** وَلَكِنْ تُؤْخَذُ الدُّنْيَا غِلابَا
العلم:
إنَّ العلم شريف يشرِّف من ينتسب إليه، ويكفي المسلمَ شرفًا أنَّ الله فضَّل العلماء ورفعهم؛ قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].
إنَّ الحيتان في البحار لتستغْفِر لمعلمي النَّاس الخير، وايْمُ الله، فما أطيع اللهُ بِمثل العلم وما عُصِي بمثل الجهل، والعلم فى جَميع المجالات مَحمود، ويَكْفيك أن تعْلم أنَّ الله ذَكَرَ قولَه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28]، بعد الحديث المستفيض عن علْم التَّضاريس والجبال والنباتات، ألا فليقْض الإنسان وقتَه في طلب العلم وتعلُّمه، ولقد صدق القائل:
بِالعِلْمِ وَالمَالِ يَبْنِي النَّاسُ مُلْكَهُمُ *** لَمْ يُبْنَ مَجْدٌ عَلَى جَهْلٍ وَإِقْلالِ
ولقد حذَّر النبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - من الجهْل وأهله، وأخبر أنَّ الجهل داءٌ وأنَّ العلم شفاء.
ففي الصَّحيح: أنَّ رجلاً احتلم وكان مشْجوج الرَّأس، فأفتَوْه بوجوب الاغتِسال، فاغتسل فمات، فقال النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((قتلوه قتلهم الله، هلاَّ سألوا إذا لَم يعْلموا؛ إنَّما شفاء العيِّ السؤال))، فالعلم قبل القول والعمل.
قال الشافعي - رحِمه الله -: "إن لَم يكن العُلماء هم أوْلياء الله، فليس لله وليٌّ على الأرض)).
ولقد صدق القائل:
تَعَلَّمْ فَلَيْسَ المَرْءُ يُولَدُ عَالِمًا *** وَلَيْسَ أَخُو عِلْمٍ كَمَنْ هُوَ جَاهِلُ
وقال آخر:
فَفُزْ بِعِلْمٍ وَلا تَطْلُبْ بِهِ أَبَدًا *** فَالنَّاسُ مَوْتَى وَأَهْلُ العِلْمِ أَحْيَاءُ
زيادة النوافل:
ومن المعِينات على الإصْلاح أن يَجعل الإنسان لنفسه وِردًا من الطَّاعة؛ فإنَّ القلب إذا امتلأ بالطَّاعة نفرَ من المعصِية، وإذا امتلأ بالذِّكْر نفَرَ من الكلام الخبيث، فالَّذى تعوَّد على الطيِّب لا يسْتسيغ الخبيث؛ جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وقال: ادْعُ الله أن أكون معك فى الجنَّة فقال: ((أعنِّي على نفسِك بكثرة السجود)).
وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: "أوصاني خليلي بثلاثٍ لا أدعُهُنَّ حتَّى أموت: نوم على وتْر، وصيام ثلاثة أيَّام من كل شهر، وصلاة الضُّحى".
فليُكْثِر الإنسان من الطَّاعة ليتعوَّد عليها ويبغض المعصية وأهلها، قال الشَّاعر:
وَالنَّفْسُ كَالطِّفْلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلَى *** حُبِّ الرَّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِمْـهُ يَنْفَطِـمِ
ولقد كان - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يقيم اللَّيل حتى تتورَّم قدماه.
ألا فلنُقابل الفِتَن بالذِّكْر والطَّاعة وزيادة النَّوافل، وفى الصَّحيح: ((وما زال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنَّوافل حتَّى أحبه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ورجله التي يَمشي بها ويدَه التي يبطش بها، ولئن سألني لأعطينَّه ولئن استعاذني لأعيذنَّه)).
إنَّ مَن أراد الصَّلاح والاستِقامة، فليقبل على الله سالكًا طريقتها، والله تعالى في معيَّته، وليحذَرِ التَّسويف، ولقد صدق القائل:
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ طَرِيقَتَهَا *** إِنَّ السَّفِينَةَ لا تَمْشِي عَلَى اليَبَسِ
والله من وراء القصْد وهو الهادي إلى سواء السَّبيل.