من سمــــات دعوة الأنبيــــــاء
الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه، أمّا بعد:
فمن جماع الدِّين: تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البين، هذه القواعد العظيمة هي من سمات دعوة الأنبياء إلى الله تعالى فهم يذمّون الفرقة والاختلاف في الدين، ويدعون إلى المحبة والائتلاف عليه، قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾[آل عمران 103] وقال تعالى: ﴿وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ مِنَ الذِينَ فَرَّقُوا دِينَِهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾[الروم 32] وقال تعالى: ﴿وَلاَ تَكُونُوا كَالذِينَ تَفَرقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾[آل عمران 105] وقال تعالى: ﴿فَاتَقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾[الأنفال 1] كما وردت أحاديث كثيرة تحذِّر من الافتراق والاختلاف وتدعو إلى المحبة والائتلاف، ولا يحقق الاجتماع على ذلك إلاّ بما قام عليه الشرع، والشرع إنّما قام على أصلين عظيمين:
أولهما: عبادة الله وحده لا شريك له، وثانيهما: عبادة الله بما شرع على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو معنى: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله» فاتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وطاعته من طاعة الله سبحانه، قال تعالى: ﴿مَن يُّطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾[النساء 80]، فلا يؤلف القلوب ويجمع الكلمة ويصلح ذات البين إلاّ هذا الدين، وأصل الدين وأسّه وعمود فسطاطه التمسك بالكتاب والسنة، والتحاكم إليهما في مواضع الخلاف، وموارد النزاع، وتحكيمهما في كلّ الأمور: صغيرها وكبيرها، والرضا بذلك، والانقياد إليه، فهذا ما اتفق عليه سلف هذه الأمّة قال تعالى: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَّقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُم المُفْلِحُونَ﴾[النور 51]، وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَّكُونَ لَهُم الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَّعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً﴾[الأحزاب 36]، وقال تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾[النساء 65]، وقد أخرج مالك في موطئه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَةِ الوَدَاعِ فَقَالَ: إِنّي تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُوا أَبَدًا: كِتَابُ اللهِ وَسُنَّتِي» (1- أخرجه مالك (1628)، وابن نصر في السنة(68)، والحاكم،(1/93)، وحسنه الألباني في تعليقه على المشكاة(186)).
فالتمسك بالكتاب والسنة والعمل بمقتضاهما أعظم نعمة أنعم الله تعالى بها على هذه الأمّة، وضمن هذا المنظور يقول شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-: «وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم، اعتصامهم بالكتاب والسنة، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان، أنّه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن، لا برأيه، ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه، ولا وجده، فإنّهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جاء بالهدى ودين الحق، وأنّ القرآن يهدي للتي هي أقوم» (2- مجموع الفتاوى لابن تيمية(13/28)).
هذا، وقد حذّرنا الكتاب والسنة من الفرقة وأمرنا بلزوم الجماعة على الدين، والقيام به، قال تعالى:﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، اللهُ يَجْتَبِي إَلَيْهِ مَن يَّشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُّنِيبُ﴾[الشورى 13]
والاختلاف في الدين والتفرق عليه سمّاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحالقة التي تحلق الدين لا الشعر(3- أخرجه الترمذي في صفة القيامة(2699)، وأحمد(1446)، من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه. وصححه الألباني في غاية المرام(414). وحسنه في صحيح الجامع(3361))، وما ابتليت أمّة الإسلام بضعفها وتفرقها إلاّ من جهة تضييعها للاعتصام بالكتاب والسنة، وإخلالها بتوحيد الله واتباع نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، إذ بالتوحيد تكون الوحدة التي تقوم عليها الأمّة، وتحيا عليها دولة الإسلام، قال ابن تيمية-رحمه الله-: «وأهل هذا الأصل: هم أهل الجماعة، كما أنّ الخارجين عنه هم أهل الفرقة، وجماع السنة: طاعة الرسول ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «إِنّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاََثاً: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَّلَّاهُ اللهُ أُمُورَكُمْ» (4- أخرجه مسلم في الأقضية: (4587) مالك: (1833)، وأحمد: (9034)،وصححه الألباني في صحيح الجامع: (1895))»(5- مجموع الفتاوى: (28/51)).
والدعاة إلى الله سلكوا هذا الصراط المستقيم على بصيرة إلى قيام الساعة؛ أمّا السبل الأخرى فشيطانية مفرقة، قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتََّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِِ﴾[الأنعام 153].
فالنجاة كلّ النجاة في اتباع السابقين الأولين، من أئمة الهدى المشفقين الناصحين، بالتزام منهجهم وعقيدتهم، واقتفاء آثارهم، وسلوك طريقتهم، ومجانبة طرق الهوى والردى، وسبل الغواية والعمى.
ردّ الله المسلمين جميعا إلى دينهم ردّا جميلا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّـد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.