مجلة بصائر - الرياض - العدد الثاني - رجب 1430
يُشَكِّكُ كثيرٌ من المحققين والمختصين بالدراسات القرآنية في صحة نسبة التفسير المطبوع باسم (التفسير الكبير) إلى لإمام الطبراني المحدث (ت360هـ) (1) , ويذهبُ أكثرهم إلى عدم صحة نسبته إليه(2) , ثم اجتهدوا في تحديد مؤلفه في ضوء إشارات من نصوص هذا التفسير وتراجم بعض المفسرين , فمنهم من ينسبه للفقيه عبد الصمد بن محمود الغزنوي الحنفي (ت723هـ)(3) ؛ صاحب (تفسير الفقهاء وتكذيب السفهاء) , ومنهم من ينسبه لأحد الأحناف المتأخرين بلا تحديد(4) , وكلاهما حاول واجتهد ؛ فأصابا في عدم صحة نسبته إلى الإمام الطبراني , وابتعد عن الإصابة من نسبه للغزنوي , وقارب من نسبه لأحد متأخري الأحناف ولم يُحدِّد .
والصواب الذي نحمد الله على التوفيق إليه هو أن التفسير المطبوع منسوباً إلى الإمام الطبراني ليس إلا نسخة من نسخ تفسير أبي بكر الحدَّاد اليمني الحنفي المتوفى سنة (800هـ) , والموسوم بـ: (كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل)(5) , وهو ما سأبينه بإذن الله في هذه المقالة .
فبينما كنت أراجع تفسير آياتٍ من سورة النور في عددٍ من التفاسير ؛ كان آخرها تفسير الحداد , تذكرت تفسير الطبراني وقد كان يُزّهِّدُني فيه قناعتي بعدم صحة نسبته إليه , فرأيتُ أن أراجعه لعلي أظفر منه بمفيد , ففوجئتُ بنص الكلام الذي قرأته قبلُ في تفسير الحداد , ونسيت بحثي الأول , وصرت أقارن بين أول كلمة في كلا التفسيرين , ثم مقاطع منه , ثم سور مختلفة منه , ثم طالعت نسخ المخطوط التي اعتمدها كلا المُحَقِّقَين فرأيتُ ما يأتي :
اعتمد الدكتور محمد إبراهيم يحيى في تحقيقه لتفسير الحدَّاد على ثلاث نسخٍ خَطيَّة ؛ الثالثة منها نسخة مكتبة ستراسبورغ الوطنية الجامعية في فرنسا برقم (4174) , وفيها هوامش جانبية تدلُّ على قراءة ومقابلة , وفُرِغَ من نسخها سنة (964هـ)(6) .
وهي النسخة الوحيدة التي اعتمدها هشام البدراني في تحقيقه لتفسير الطبراني , ولم يجد غيرها , واعتمد في نسبتها للإمام الطبراني على ما كتبه الناسخ في رأس الصفحة الأولى منه : (هذا كتاب تفسير فريد دهره وحكيم عصره شيخ الإسلام الهمام الشيخ الطبراني الكبير عن تفسير القرآن العظيم)(7) .
ولا يخفى على محقق أن نشر الكتاب عن نسخة وحيدة فيه ما فيه من مزلّة القدم , ومظنة الخطأ(8) , وخطأُ الناسخِ في نسبة هذا المخطوط جَرَّ معه المحققَ باستعجاله , ولست الآن في مقام تعداد ما أخطأ فيه المحقق , وإنما أود الإشارة إلى أن الخلل حين يقع في منهجية التحقيق العلمي فإنه يورث جملةً من المجازفات والتناقضات في إخراج تراثنا العلمي , كما يشغل الساحة العلمية زمناً بما لا حاجة إليه من القراءة والرد والتعقيب , والتي تأخذ بحظِّها من أوقات المشاريع العلمية الجادَّة , ومن جهد المتخصصين والمحققين .
ولستُ أُبَرِّئُ أحداً من المُحَقِّقَين من ذلك الخلل :
- فأمَّا محقق تفسير الحدّاد فلم يستوفِ قراءة هذه النسخة الثالثة من المخطوط قراءةً نقديَّة ؛ يدفع بها ما قد يؤثر في النسبة , كما لم يستوفِ وصف المخطوط وصفاً صحيحاً ؛ فقد أغفل ما كتبه الناسخُ في أوَّل المخطوط وفي مواضع كثيرة منه ؛ حين نسب هذا التفسير للطبراني , ولم يُشِر المحقق إلى ذلك بأي إشارة , وهذا وإن كان لا ضرورة له –ربما في اجتهاد المحقق- مع توافر نسخٍ أخرى تقطع بنسبة هذا التفسير للحدَّاد , إلا أنه من أدب التحقيق وهدي المحققين , ولو لم يكن فيه إلا ردّ غائلة من يأخذه على عِلاَّته ويشغل الناس به = لكفى به فضلاً وأهمية .
ومن مظاهر النقص في منهج التحقيق هنا أن المحقق وقد أفرد مجلداً يقع في (500 صفحة) وجعله مقدمةً ودراسةً للتفسير ومؤلفه = لم يذكر شيئاً عن مخطوطات الكتاب , وإنما أخبر بقصة وقوفه عليه ورجوعه إلى بعض فهارس الكتب والمخطوطات لإثبات نسبة الكتاب إلى مؤلفه , ثم في مقدمة الجزء الأول من التفسير ذكر باختصار هذه المخطوطات مع صورٍ قليلة منها , وقد اجتنب في تصوير النسخة الثالثة ما يشير إلى اسم الطبراني الذي كتبه الناسخ في مواضع عديدة منه . كما خلا هذا العمل من المقارنة بين النسخ الثلاث , وهي مرحلة لازمة من مراحل التحقيق , وأولى منها وألزم أن يحدِّد أيَّ نسخة منها هي المعتمدة في العمل , والمقدمة في الإثبات , وهذا ممَّا أغفله المحقق أيضاً فظهر أثره في مواضع لم تخلُ من سقط وتصحيف(9) , ولا أدري ماذا بقي للمحقق ليعمله بعد ذلك ؟! فإن أعظم جهد المحقق إنما يصرف في ذلك , وهذا هو معنى اسم "التحقيق" .
- وأمَّا محقق تفسير الطبراني فقد ظهر من استعجاله في نسبة هذا المخطوط إلى الطبراني دون تثبتٍ كافٍ , ومن عدم احتفاله بكثير من الإيرادات التي أوردها جملةٌ من الفضلاء على هذه النسبة , ومن التمَحُّل في الإثبات بما لا دليل فيه , ومن القطع في مقام الاحتمال , ومن المغالطة في الرد = ما جعل عمله هذا مثالاً لعدم التوفيق , ولتحقيقٍ يحتاجُ إلى تحقيق .
وفي سقوط هذا العمل من أصله ما يغني عن تعداد المآخذ المنهجية عليه مع كثرتها وظهورها , إلا أن ما لا ينبغي إغفاله من ذلك أمرين :
أولهما : الغفلة الظاهرة عن اعتبار منهج العلم والتأليف في زمن الطبراني , وكذا الغفلة عن منهج الطبراني نفسه في تآليفه , فواقع هذا التفسير لغةً وأسلوباً لا يمكن انطباقه على ذلك الزمن , وعلى تآليف الطبراني المحدِّث على الخصوص . واعتبار زمن التأليف وثقافة المؤلف ومنهج الكتابة في زمنه من الشروط الواجب اعتبارها في التحقيق .
ثانيهما : تجاهل النقول الوافرة عمَّن عاشوا بعد زمن الطبراني بسنين وبعضهم بقرون ؛ ففيه النقل عن أبي الطيب سهل بن محمد العجلي الحنفي(ت404هـ) , والإمام الثعلبي المفسِّر(ت427هـ) , واللغويّ أبي منصور الثعالبي(ت430هـ) , والفقيه الحنفي عبدالصمد الغزنوي(ت723هـ) , وحين حاول المحقق إصلاح ذلك أتى بشرٍّ ممَّا ترك , فجعل من مات بعد الطبراني بخمسين أو سبعين سنة معاصراً له , وجعل من ذُكِرَ بعد ذلك - كالغزنوي – ممَّا أقحمه الناسخُ في النص , فحذفه من النص , وأشار في الحاشية إلى أنه من تَصَرُّف الناسخ ؛ لأنه ليس من أسلوب المصنف , وقد بلغ ما حذفه في إحدى المواضع عشرة أسطر(10) , وفي موضع آخر حذفه منه فأفسد المعنى , ولم يُشر إلى ما فعل(11) , واعجب لهذا الصنيع ! إذ كيف يأتمنُ المحققُ الناسخَ على اسم المخطوط وهو أجل خطراً , وأعظم أثراً , ولا شيءَ يعضده , ثم لا يأتمنه على النص , ويتهمه بالزيادة فيه بلا دليل ؛ إلا أن النص المذكور لا يوافق ما بنى عليه المحقق عمله , فلابد من التصرف فيه ولو بتحميله للناسخ .
إن كُلَّ كلمة في النص المخطوط أمانةٌ بيد المحقق , والمحقق الأمين لا يجرؤ على تضييعها , وإن الرغبة المُلِحَّة في إخراج تراث أئِمَّتنا الجليل , لا تكفي دافعاً ولا شافعاً في الإعراض عن أصول التحقيق وآدابه المعتبره , ومن عانى التحقيق وخبره يعتصره الأسى ممَّا يرى من تتابع من ليس من أهله عليه , وجرأتهم على اقتحامه , وكم لهم في شكوى هذا الصنف من آهات مسطورة (12).
على أن ذلك لا يثني الجادين في فن التحقيق وأهل التخصص من أن يؤدوا حقَّ العلم عليهم , ويظهروا ما خفي من آثار أسلافهم , ويبذلوا في ذلك غاية جَهدهم , مُتحَلِّين بأصول هذا الفن وآدابه , فهناك يُحمَد كل جُهد , ويُثمِر كل أَثَر , ويُعذَر من لم يوَفَّق .
وممَّا ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام أن الاستعجال في اعتماد كتب مشكوكٍ في نسبتها لمشاريع علمية بحثية استعجال في غير مَحَلِّه , والذَّمُّ اللاحق بمن استعجل في إخراج الكتاب بلا تحقيق أصيل ؛ يلحق أيضاً من يبني عمله على هذا الأصل الذاهب , ولست أعني كتاباتٍ عن منهج الطبراني في تفسيره ونحو ذلك ؛ فهذا ممَّا لا يفكر فيه من له أدنى اطلاع على هذا التفسير , وإنما أعني عدداً من المحاولات البحثية التي قامت على الكتاب باعتباره تفسيراً لعبد الصمد الغزنوي الحنفي , وهذا وإن كانت الشبهة فيه أقوى من غيره , إلا أنه دون التثَبُّت الواجب الذي لا يرضى الباحث الجادّ بأقل منه , ولا ينبغي أن تُشغَلَ المؤسساتُ العلميةُ بما دونه .
وفي ختام هذا البيان الموجز أجد من اللازم التذكير بعظم أمانة تحمل العلم ونشره , وأن ذلك من الدين الذي لا يرضى فيه المسلم بما دون الكمال ؛ خاصَّة ما كان ذا علاقة بأعظم وأجلِّ كتاب ؛ القرآن الكريم , فكيف إذا كان تفسيراً له , فهو أولى بالإجلال والتأني وطلب الكمال من كلِّ وجه , والله الموفق , وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه , والحمد لله رب العالمين .
-----
(1) طبع في ستة مجلدات بتحقيق هشام بن عبد الكريم البدراني , عام 1429هـ , عن دار الكتاب الثقافي , الأردن .
(2) تُنظَر مجموعة مباحثات حول هذا الكتاب في موقع (ملتقى أهل التفسير) على شبكة المعلومات العالمية الانترنت.
(3) وهو ما ذهب إليه الأستاذ إبراهيم باجس عبد الكريم في بحث له بعنوان : (تفسير الطبراني أم تفسير الغزنوي ؟) , ضمن مجلة المخطوطات والنوادر , في المجلد الثاني من العدد الأول , بتاريخ المحرم-جمادى الآخرة عام 1418 .
(4) وهو رأي الأستاذ الدكتور المحقق بشار عواد معروف , ضمن مقالة له نشرتها جريدة الدستور الأردنية في عددها رقم 14728 , بتاريخ الاثنين 22 جمادى الاولى 1430 .
(5) طبع في سبعة مجلدات , والثامن دراسة مفردة عن التفسير , بتحقيق محمد إبراهيم يحيى , عن دار المدار الإسلامي سنة 1424هـ , وأصله رسالة دكتوراه تقدم بها المحقق إلى كلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط سنة 1411هـ .
(6) ينظر : تفسير الحدّاد 1/6-7 .
(7) ينظر : التفسير الكبير , للطبراني 1/79-80 , وأضيف هنا أن الناسخ في جميع مواضع تسميته للكتاب كان يكتب : للشيخ الإمام (الطبراني الكبير) , وليس هذا الوصف بمعروف في ترجمة الطبراني المحدث , وما كان ينبغي إغفاله خاصة في مقام الشك .
(8) ينظر : في اللغة والأدب .. دراسات وبحوث , للعلامة المحقق محمود الطناحي 2/797 .
(9) ينظر السقط في أثر ابن عباس في أول تفسير ألم من سورة آل عمران 2/6 , وكذا تصحيف (ابن حيَّان) إلى (ابن حِبَّان –بالموحدة التحتانية-) عند آية (209) من سورة يوسف 1/302 .
(10) تفسير الطبراني 2/346 , وقارن بتفسير الحداد 2/371 .
(11) المرجع السابق 3/471 , وقارن بتفسير الحداد 4/12 .
(12) ينظر : في اللغة والأدب .. دراسات وبحوث , لمحمود الطناحي 1/295 , ومقالات العلامة المحقق السيّد أحمد صقر (ص:393) .