تطور المدن في المغرب الإسلامي وعلاقاتها – العلاقات التجارية ببلاد السودان خلال القرنين 3و4هـ (9_10م)
مقدمة:
عرف العالم الإسلامي ابتداء من القرن الثاني إلى الرابع الهجري تطورا عمرانيا كبيرا،ويعد تأسيس المدن أبرز سماته،وقد أصبح بعضها يمثل أكبر مدن العالم(1)وقيل أن المجتمع الاسلامي هو مجتمع مدن(2)،كمايلاحظ أن التطور العمراني للعالم الاسلامي،قدحدث خلال فترة ازدهار الحضارة الاسلامية،واعتمد أساسا على الازدهارالاقتصادي الذي يكاد ينحصر في تلك الفترة على النشاط التجاري،وهو النشاط الذي يكمن وراء تطور المدن وانتشار شبكة المسالك التجارية البرية والبحرية معا(3).وفي هذا الصدد أشار ابن خلدون إلى العلاقة بين العمران والازدهارالاقتصادي حيث قال”ومتى عظم الدخل والخرج اتسعت أحوال الساكن ووسع المصر”(4).وكان للمدن المغربية دور بارز في المبادلات التجارية بينها وبين بلاد السودان،،بسبب ارتباطها بشبكة من المسالك التجارية ببلاد السودان.فكانت القيروان بداية الانطلاق،وسجلماسة بوابة بلاد السودان في المغرب.
1/تطور المدن في المغرب الإسلامي:قبل التطرق إلى العلاقات التجارية بين المغرب الاسلامي وبلاد السودان،لابد من تقديم توطئة تنظيرية تهدف إلى إبراز العلاقة الجدلية بين التطور العمراني والازدهارالتجاري،وأثر ذلك في المكانة البارزة التي أصبح يحتلها المغرب الاسلامي في التجارة العالمية،وتنطلق هذه الرؤية التنظيرية من الواقع التاريخي والاقتصادي،فهي تسعى جاهدة إلى اكساب أوجه النشاط العمراني والتجاري الذي تعرضت إليه مصادر الجغرافيين والمؤرخين العرب،ويبدو في هذه الرؤية التنظيرية ضربا من ضروب التجديد في دراسة مميزات الحضارة العربية الاسلامية.إذلايمكن فهم أهمية دور المدن التجارية في المغرب الاسلامي والتي شهدت تطورا عمرانيا واقتصاديا ذا شأن خلال القرنين الثالث والرابع الهجري إلا في إطار نظرة شاملة لتطور المدن،وليس في نطاق نظرة ضيقة أي النظرة إلى المدينة باعتبارها وحدة مستقلة.
إن تطبيق هذه النظرة الجديدة لتاريخ المدن وتطورها يقتضي اعتبارمظهرين أساسيين:فالمظهر الأول يتجلى في ذلك التطور العمراني والديمغرافي الذي شهده العالم الاسلامي عامة والمغرب الإسلامي خاصة، ابتداء من النصف الثاني للقرن الثاني الهجري وخاصة خلال القرنين الثالث والرابع الهجري،ويتصل بهذالتطور بروز شبكة من المسالك بعضها قديم وبعضها جديد،ولكنه اكتسب أهمية جديدة خلال عهد الازدهار العمراني في العالم الاسلامي،أما المظهرالثاني فيتمثل في ارتباط التطور العمراني وما يتصل به من قضايا متعددة بديناميكية إقتصادية في منطقة جغرافية واسعة وهامة كانت تشكل في تلك الفترة قلب مراكز التجارة العالمية ومسالكها وقد أحدثت هذه الديناميكية حاجات اقتصادية جديدة،اكتسبت بينها بضاعتان أساسيتان هما الذهب وتجارة الرقيق(5).لقد ارتبط تطور التجارة،وتوطدت العلاقات التجارية بين المغرب الإسلامي بانتشار الإسلام،ولاسيما في المناطق الصحراوية من المغرب الإسلامي وبصورة خاصة في جنوب الصحراء إثر التطور الكبير والسريع الذي شهدته التجارة الصحراوية ابتداء من القرن الثالث الهجري وهي تعتمد أساسا على البضاعتين الأساسيتين في التجارة العالمية انذاك وهي الذهب وتجارة الرقيق، فقد ظهرت تجمعات سكانية في مختلف مراكز التجارة المؤسسة على طول المسالك التي كانت تربط بين الصحراء جنوبا وموانىء البحرالمتوسط شمالا من جهة،وبين الصحراء والمشرق الاسلامي من جهة ثانية،وقد كانت فئة التجارالمسلمين أنشط عناصر سكان تلك المراكز التجارية،ليس في النشاط التجاري فحسب بل في نشرالاسلام،لقد سمح الموقع الجغرافي للمغرب الإسلامي بتفتح تجاري وحضاري كبيرين، فمن المعروف أن الحوض الغربي من البحرالمتوسط يتصل بأوسع منطقة جغرافية تشرف على الصحراء،فبعد الواجهة البحرية،توجد الهضاب الفاصلة بين الساحل والصحراء، وكان لهذا الموقع أثربالغ في تطورالمسالك التجارية وتنوعها جنوبا شمالا وغربا شرقا، وكذلك في ازدهار تجارة الذهب والرقيق في بلاد المغرب،وقد أثر العامل الجغرافي تأثيرا واضحا في مساهمة المغرب الاسلامي في التجارة العالمية،وفي علاقاته الحضارية مع منطقة البحر المتوسط.
إن مدن المغرب الإسلامي في الواقع كانت مخازن لبضائع بلاد السودان لإعادة توزيعها في اتجاه صقلية والمشرق الاسلامي من شواطىء إفريقية أو في اتجاه الأندلس وأوروبا من سواحل مضيق جبل طارق.وكانت السلعة الهامة هي بطبيعة الحال ذهب بلاد السودان(6).إن تأثير ذهب السودان قد تجاوز في الواقع التطور العمراني للمدن المغربية خلال أربعة قرون(2_5هـ)(8م_11م) ليؤدي دورا حاسما في نهضة غرب أوروبا وجنوبها فيما بعد.
وقد أكدت الدراسات الحديثة* هذا الدور،والتي أقامت الدليل على تأثير ذهب السودان في السياسة النقدية لأوروبا الغربية والجنوبية ،وفي التحول الجذري الذي بدأت تعيشه هذه المنطقة ابتداء من القرن الثالث عشر الميلادي(7).وإذا كان العالم الاسلامي أصبح يشكل وحدة عمرانية واقتصادية خلال القرنين الثالث والرابع الهجري،فإن طرق المواصلات التجارية وشبكة المسالك التجارية فيه تمتد من الجنوبي الغربي من بلاد السودان إلى أوروبا،ومن سواحل إفريقية الشرقية إلى الصين وبلاد الترك،وتمتد كذلك من المغرب إلى المشرق من شواطىء المحيط الأطلسي إلى بغداد وكابول،ومنهما إلى منطقة المحيط الهندي(8).كان المغرب الاسلامي يضم ثلاث مناطق تجارية أساسية وهامة:وهي منطقة إفريقية ومن أبرز مراكزها التجارية القيروان،والمنطقة الثانية وتتصل المسالك التجارية فيها بمدينة تاهرت عاصمة الإمارة الرستمية،وهي مركز تجاري حساس يربط بين مسالك الصحراء وبلاد السودان بالأندلس،وجزر البحرالمتوسط عن طريق ميناء تنس وحلفة وصل هامة في التبادل التجاري بين المغرب والمشرق الإسلامي،أما المنطقة الثالثة وهي منطقة المغرب الأقصى بواجهتيها البحريتين:واجهة المحيط الأطلسي أو بحر الظلمات كما يسميه الجغرافيون العرب القدماء،وواجهة البحرالمتوسط،ويجمع بين هذه المناطق الثلاثة الموقع الجغرافي الذي ينحصر بين واجهتين تجاريتين:الواجهة البحرية والواجهة الصحراوية،وهما واجهتان تقعان ضمن الوحدة العمرانية والاقتصادية للعالم الاسلامي. لقد أدت فترة الصراع المذهبي في بلاد المغرب،التي كانت حركة الخوارج مظهرا من مظاهرها ابتداء من سنة122هـ والذي استمرهذا الصراع حوالي أربعين سنة.
أدى إلى توقف المبادلات التجارية بسبب انعدام الأمن عبر المسالك التجارية باعتباره عاملا مهما في النشاط التجاري والتطور العمراني(9).وقداتضحت معالم الخريطة السياسية لبلاد المغرب والأندلس ابتداء من النصف الثاني للقرن الثاني الهجري،فقد أسس الأمويون خلافتهم الجديدة في قرطبة،وأسس بنومدرار المكناسيون عاصمة إمارتهم الصفرية في سجلماسة،والأدراسة أسسوا دولتهم في فاس،وبعدهم بقليل بنورستم عاصمة إمامتهم الإباضية في تاهرت،وبعد أن تأسست هذه الإمارات المغربية،والتي لم تتبع سياسة توسعية لبسط نفوذها السياسي والمذهبي،عرف المغرب الاسلامي فترة استقرار سياسي امتد إلى نهاية القرن الثالث الهجري،وقد ساهم هذا الاستقرار في تطور المسالك التجارية وأمنها،وقد يبدو للوهلة الأولى أن هناك تناقضا بين بروز هذه النظم السياسية المختلفة وبين التطور العمراني والازدهارالاقتصادي،بل حاولت هذه النظم السياسية أن تحقق الأمن للمراكز التجارية وتستغلها إقتصاديا وذلك لتدعيم مركزها السياسي والتجاري،ولعل الأمر الأمر يعود إلى اكتفاء دول المغرب بموارد المسالك التجارية الموجودة داخل نطاق منطقتها الجغرافية ودون محاولة توسيع مجالها على حساب منطقة الدول المجاورة،ويتضح أن للاستقرار السياسي الذي شهده المغرب الإسلامي خلال القرن الثالث الهجري دورا فعالا في النشاط التجاري،وبالتالي الإزدهار العمراني،ولكن يمكن مخالفة الاتجاه الذي يقتصر على هذا الجانب من القضية لتعليل ذلك الازدهار(10).
ويبدو أن التحول الذي طرأ على المسلك التجاري القديم الخاص بتجارة الذهب والرقيق بين بلاد السودان والمشرق،وخاصة الطريق التجاري الرابط بين غانة ومصر عن طريق بلاد النوبة بسبب ماكان يمثله من خطر على القوافل وكثرة عواصفه الرملية،أصبح هذا الطريق يمر ببلاد المغرب(11) جاعلا من القيروان وبلاد الجريد ووارجلان،وتاهرت وتلمسان وفاس وسجلماسة مراكز تجارية نشطة تتفرع منها مسالك فرعية،وتجمعت عن طريق التجارة الصحراوية ثروات كبرى من الذهب في مدن المغرب،وأصبح الدينار السجلماسي مثلا عملة قوية تجاوز التعامل بها حدود إمارة بني مدرار وبلغ الأندلس في عهد الخليفة عبدالرحمان الناصر،ومن أهم البضائع التي كانت في قائمة المبادلات التجارية بين المغرب الاسلامي ومراكز التجارة العالمية المتصلة بها في تلك الفترة الحبوب وزيت الزيتون واللحوم والقطن والخشب والملح. والتمور والعسل والسكر والزبدة والمرجان والعنبر والعطور والورق والمنسوجات والصوف والنحاس المصنوع والحديد والشمع والجلود والفرو،ومادة الزئبق التي كانت تستوردها المدن المغربية والتي اشتهرت بثروتها الذهبية من الأندلس لاستخدامها في صناعة الذهب،أما البضاعتان الثمينتان اللتان تكمنان وراء الثروات الكبرى التي تجمعت في مدن تجارية مثل أودغست وسجلماسة وتاهرت فهما الذهب وتجارة الرقيق،وهما محور التبادل التجاري بين المغرب الاسلامي وبلاد السودان،فقد كانت سجلماسة تصدر إلى السودان أنواع التمور والزبيب والنحاس المصنوع ومنسوجات سجلماسة المشهورة.
ويعود التجار بالتبر والرقيق،وفي هذاالموضوع ذكر الحميري عن تكرور قائلا:”وإليها يسافر أهل المغرب الأقصى بالصوف والنحاس والخرز ويخرجون منها بالتبر والخدم”(12).وأهم بضاعة تحملها القوافل التجارية من بلاد المغرب إلى بلاد السودان هي الملح،حيث يقول ابن حوقل”وربما بلغ الحمل الملح في دواخل بلد السودان وأقاصيه مابين مائتين إلى ثلاثمائة دينار”(13).وقد ذكر البكري غرائب صحراء المغرب الأقصى،فأشار إلى معدن الملح الموجود بين سجلماسة وأودغست،وقال:”ومن هذا المعدن يتجهز بالملح إلى سجلماسة وغانة وسائرالسودان والعمل فيه متصل والتجار إليه متسايرون،وله غلة عظيمة”(14).واستمرت أهمية تجارة الملح مع بلاد السودان إلى عهد ابن بطوطة (704ـ 779هـ ) حيث ذكر تغازي التي تبعد عن سجلماسة بخمسة وعشرين يوما في اتجاه الجنوب نحو بلاد السودان ،يسكنها عبيد مسوفة وهم الذين يشتغلون في مقاطع الملح بتغازي،وأضاف الرحالة المغربي قائلا:”وقرية تغازي على حقارتها يتعامل فيها بالقناطير المقنطرة من التبر”(15).
ولإبراز أهمية تجارة الذهب والرقيق في تطور وازدهار المراكز التجارية المغربية،فإن ابن حوقل يبين استقرار الفئات التجارية بسجلماسة بقوله:”…وسكنها أهل العراق وتجار البصرة والكوفة وتجاربغداد الذين كانوا يقطعون ذلك الطريق،فهم وأولادهم وتجارتهم دائرة ومفردتهم دائمة،وقوافلهم غير منقطعة إلى أرباح عظيمة وفوائد جسيمة،ونعم سابغة،ولقد رأيت صكا كتب بدين على محمد بن أبي سعدون بأودغست،وشهد عليه العدول باشنين وأربعين ألف دينار…”(16).وقد تعرض البكري في وصفه لسكان سجلماسة قائلا:”…ومن الغرائب أن الذهب جزاف عدد بلا وزن،والكراث يتبايعونه وزنا وعددا…”(17).وفي وصفه لمدينة أودغست وهي مركز تجاري معروف بتجارة الذهب والرقيق والملح يقول:”…ويتجهز إلى أودغست بالنحاس المصنوع،وبثياب مصبغة بالحمرة والزرقة مجنحة،ويجلب منهاالعنبر المخلوق الجيد لقرب البحر المحيط منا والذهب الإبريز الخالص خيوطا مفتولة،وذهب أودغست أجود ذهب أهل الأرض وأصحه…”(18).ويذكر البكري أيضا أنه “كان للرجل الواحد من سكانها ألف خادم وأكثر”(19).إنه من الواضح أن هاتين البضاعتين تمثلان ميزة أساسية من ميزات الحياة التجارية المغربية خلال القرنين الثالث والرابع الهجري،فقد يلاحظ دورهما الحاسم في الحياة الاقتصادية للمراكز التجارية المغربية ،ومن هنا أصبحت العلاقات التجارية بين المغرب وبلاد السودان تعكس ظاهرة اقتصادية جديدة في حياة المغرب خلال هذا العصر(20.
وربما السؤال الذي يطرح نفسه ما أهمية تجارة الرقيق في تجارة العالم الاسلامي عامة والمغرب الاسلامي خاصة؟إن الرقيق متوفر في المجتمع الاسلامي وتعددت مصادر استيراده،وأصبح يمثل ظاهرة اجتماعية بارزة في حياة المدن والريف معا إلى درجة جعلت بعض الدارسين للحضارة العربية الاسلامية يصفونها بأنها حضارة رقيق،لاتختلف عن الحضارات القديمة وعن الحضارة البيزنطية على وجه الخصوص.إن هذا الوصف لايخلو من مبالغة،بحيث هناك فرق شاسع بين ظاهرة العبيد في المجتمع الاسلامي وفي مجتمعات الحضارات القديمة،ولكن هذا لايمنع من التأكيد على حقيقة تاريخية تتلخص في أن الرق يمثل ظاهرة أساسية في تاريخ الاقتصاد الاسلامي،وربما الحاجات الاقتصادية للمجتمع الاسلامي الجديد قد طغت على ما جاءت به الشريعة الاسلامية لإعطاء هذه الفئة الاجتماعية حقوقها،وتيسير انتقالها من حالة العبودية إلى حالة الحرية،ويبدو أن حاجة العالم الاسلامي إلى العبيد ازدادت بعد انتهاء الفتوحات وبداية عصر الازدهار العمراني،وظهور العملة الاسلامية باعتبارها عملة قوية.يقوم على أساسها التبادل التجاري العالمي ،فبحث التجار عن مناطق تموين العالم الاسلامي بهذه البضاعة الهامة،فاستوردوا الرقيق من بلاد الترك باسيا الوسطى،ومن بلاد الصقالبة،ومن مناطق مختلفة منها مناطق قديمة معروفة بالنوبة والحبشة وسواحل إفريقية الشرقية،ثم ظهر مصدر جديد وغني وهو بلاد السودان،وكان له دور بارو في تايخ التجارة المغربية،وخاصة أن بلاد السودان أصبحت تشكل المصدر الأول لتجارة الرقيق ابتداء من القرن الرابع الهجري(21).ويبدوأن العبيد أصبحوا يشكلون القوة المنتجة الأساسية في جميع ميادين النشاط الاقتصادي،فكانوا هم العاملون في المناطق الزراعية الكبرى،وفي الواحات الصحراوية المغربية،وفي المعادن وفي حراسة القوافل التجارية وفي البناء والصناعات التي نشأت في مراكز العمران،وفي الأعمال المنزلية،ولذا فإن ملكية عدد وافر منهم لم تصبح مقتصرة على الأمراء والأسر الحاكمة،بل أصبحت الفئات الثرية تملك عددا من العبيد ولاسيما فئة التجار،ولاغرابة من العدد الكبير من العبيد،لأن تجارة القوافل كانت في حاجة إلى عمال وحراس،ويلاحظ في الحياة السياسية والعسكرية في المجتمع الاسلامي أن الرق العسكري احتل مكانة بارزة ابتداء من القرن الثالث الهجري حيث بلغ عدد العبيد في الفسطاط في العهد الطولوني حوالي أربع وعشرين ألف عبد تركي،وأربعين ألف عبد سوداني(22).
وأصبح اتخاذ الحرس الخاص من عبيد السودان أمرا شائعا لدى حكام المغرب ابتداء من القرن الثاني الهجري،فقد اتخذ ابراهيم بن الأغلب مؤسس إمارة بني الأغلب سنة184هـ /808م الحرس الخاص من العبيد السود(23)،وكذلك اتخذ عبيدالله الفاطمي بعد بيعته سنة297هـ /910م العبيد من السودان والروم حرسا له(24).أما البضاعة الثانية التي كانت تمثل المنشط الهام للتجارة الاسلامية،والعصب المحرك لديناميكية التطور العالمي في العصر الوسيط،والأساسية في تجارة بلاد المغرب فهي الذهب(25).فلامناص إذن من وضع تدفق ذهب السودان إلى المشرق الاسلامي،ومنطقة البحرالمتوسط بالخصوص في اطار العناصر الجديدة التي أدخلها الحكم الاسلامي على الحياة الاقتصادية في المناطق التي كانت خاضعة للفرس والروم.كانت عملتان أساسيتان متداولتين في العالم القديم إلى غاية القرن الثامن الميلادي وهما الدرهم الساساني والدينار البيزنطي،ولقد استمر التعامل بهمافي العصر الاسلامي الأول،ولكن حدث هنالك تحولا جذريا ابتداء من نهاية القرن الأول الهجري أي بداية الثامن الميلادي حيث سخرت الذخائر الذهبية التي كانت مخزونة لفائدة الدورة الاقتصادية العالمية في مناطق النفوذ الفارسي والبيزنطي،وأصبحت في ظل الحكم الاسلامي تمثل وحدة جغرافية واقتصادية(26).ثم طرأ حدث جديدابتداء من القرن الثالث الهجري التاسع الميلادي،لايقل شأنا عن ذلك التحول وهو اكتشاف العالم الاسلامي لمصدر جديد لتوريد هذا المعدن الثمين بلاد السودان(27).
وسيبقى ذهب السودان طوال ستة قرون يغذي مصانع ضرب العملة الذهبية في بلاد المغرب ومنطقة البحر المتوسط،ويدعم حركة التبادل التجاري بين بلاد السودان والمغرب من جهة،وبين المغرب والمشرق الاسلامي ومنطقة البحر المتوسط من جهة ثانية.وقد جعل التحول والاكتشاف الجديد من المسلمين خلال حقب طويلة سادة الذهب في العالم على حد تعبير م.لومبارد،ومكنا العالم الاسلامي من بلوغ درجة تفوق اقتصادي تجاه الشرق والغرب معا بفضل امتلاكه لثروات ذهبية هائلة،ولما تتمتع به العملة الاسلامية من اعتراف العالمي(28).إن دور المغرب الاسلامي واضح في هذه السياسة الاقتصادية والنقدية التي سمحت للمجتمع الاسلامي ببلوغ التفوق الاقتصادي خلال عصور الازدهار العمراني،والهدف من ابراز هذه القكرة هو ربط أهمية تجارة الذهب والرقيق كميزة من مميزات تاريخ التجارة المغربية في العصر الوسيط(29)،وكذلك ماكان يربط المغرب الاسلامي ببلاد السودان من علاقات تجارية.لقد كان للصبغة القبلية والمذهبية دور بارز في الصراع السياسي والعسكري الذي عاشه المغرب الاسلامي.
خلال القرن الثاني الهجري،فإن سياسية السيطرة على المسالك التجارية البرية والبحرية،وخاصة ضمان استيراد الذهب والرقيق من بلاد السودان هي التي تكمن وراء الصراع السياسي والمذهبي الذي عرفه المغرب الاسلامي خلال القرنين الثالث والرابع ،ومن الأمثلة على ذلك الصراع الأموي الفاطمي ومارتبط به من تحالف سياسي وقبلي.لقد ارتبطت المنتجات الفلاحية المغربية بالتجارة في العصر الوسيط،وذلك لأسباب هي:الثنائية الاقتصادية الزراعة والتجارة،وهي ميزة الاقتصاد المغربي ابتداء من القرن الثالث الهجري”(30).،والسبب الثاني أن كثيرا من المنتجات الزراعية أصبحت بضائع أساسية في قائمة التبادل التجاري خاصة بالنسبة للتجارة الصحراوية مثل الحبوب والتمور والزبيب وقصب السكر ،ومن النتجات الحيوانية الصوف،وتجدر الاشارة إلى أن ابن خلدون قدتنبه إلى هذه الظاهرة في حياة المدن قبل ظهور النظريات الحديثة ،فكتب فصلا في المقدمة سماه:”فصل فيما تجب مراعاته في المدن،وما يحدث إذا غفل عن تلك المراعاة فأشار إلى ضرورة ضمان مناطق زراعية حول المدينة قائلا:”ومما يراعي أيضا المزارع،فإن الزروع هي الأقوات،فإذا كانت مزارع البلد بالقرب منها كان ذلك أسهل في اتخاذه وأقرب إلى تحصيلها”(31).
2/علاقة المدن المغربية التجارية ببلاد السودان:ويبدو من خلال التطور التاريخي للمدن في المغرب الإسلامي،أنها ساهمت بشكل كبير في العلاقات التجارية بين المغرب الاسلامي وبلاد السودان عبر المسالك والطرق التجارية التي كانت تربطها بمدن بلادالسودان،ومن بين المدن المغربية التي كان لها دور أساسي في هذه العلاقات القيروان وتاهرت وسجلماسة،أما المدينة التي كانت تشكل حلقة الاتصال التجاري بين المغرب الاسلامي وبلاد السودان هي مدينة أودغست.فماهي علاقة هذه المدن التجارية في المغرب الإسلامي ببلاد السودان؟ فمدينة القيروان كانت نقطة الانطلاق في ضبط المسالك وتحديدالمسافات التي تحدث عنها الجغرافيون العرب،وبقيت منذ تأسيسها إلى سقوطها في منتصف القرن الخامس الهجري أهم مركزمغربي.
في حركة النقل التجاري،وكانت نقطة لقاء بين المغرب والمشرق،وبين التجارة المتوسطية.وقوافل التجارة الصحراوية،وكانت علاقة القيروان ببلاد السودان وهي علاقة قديمة،تعود إلى بداية القرن الثاني الهجري ،فقد أرسل عبيدالله بن الحبحاب بعد أن ولى إفريقية والمغرب سنة116هـ قائده حبيب بن أبي عبدة إلى المغرب الأقصى،فغزا السوس الأقصى،وبلغ أرض السودان(32).وقد تطورت العلاقات التجارية بين القيروان وبلاد السودان خلال القرن الثالث الهجري،وكان مصدر ثروة لعدد من تجار المدينة،فقد استأذن أحدهم الامام سحنون أن يبني قنطرة يجوز عليها الناس على دارسحنون،فأبى سحنون لأن كسبه كان من بلاد السودان(33).وكان علماء القيرون يتورعون من مال التجارة خاصة من تجارة بلاد السودان،لما اشتهرت به من ربح فاخش أو استغلال،وجاء في ترجمة أبي الفضل أحمد بن علي أحد تلاميذة سحنون أنه ترك من ميراث أبيه أكثر من ألف دينار لم يرثها،فسئل عن ذلك فقال:”كان من تجارة العاج فكرهته لماجاء فيه عن أهل العلم”(34).ولما نقطع البسي من إفريقية،أصبح السودان مصدرا ثريا يمد القيروان وبقية المراكز التجارية المغربية بما تحتاجه من رقيق،وهي الفترة التي كان فيها صائغ القيروان يصدر بضاعته إلى بلاد السودان،وكان إبراهيم بن الأغلب يتخذ الحرس من العبيد السود خلال النصف الثاني من القرن الثاني الهجري.أما بالنسبة لتهارت الرستمية فقد تطورت الحركة العمرانية بها نتيجة التطور الاقتصادي ولاسيما تجارتها،وكانت ملتقى لطريقين تجاريين وئيسيين لعبا دورا هاما في الحياة التجارية المغربية من القرن التاسع الميلادي إلى القرن الثاني عشروهما طريق الشرق والغرب،أي من بلاد مصر إلى شواطىء المحيط الأطلسي الذي يربط المدن الواقعة على حدود الصحراء مع تجارة بلاد السودان،وطريق جنوب شمال أي بلاد السودان والمدن الصحراوية إلى شواطىء البحرالمتوسط.،بالاضافة إلى موقع تاهرت الجغرافي الذي سمح لها بالتحكم في الطريقيين التجاريين.
فإنها تأسست في موضع غني بالمياه،مما جعلها تقوم بنشاط اقتصادي ثاني إلى جانب التجارة وهي الزراعة وتربية الحيوانات وخاصة تربية المواشي،واستطاع سكانها أن يجمعوا بين الفلاحة والتجارة،ويذهب بعض الباحثين أن ظاهرة الاستقرار النسبي الذي عرفه المغرب الاسلامي خلال القرن التاسع الميلادي كان له تأثير مباشر في ازدهار الحياة الاقتصادية بتهارت وضواحيها،وأن أهمية تربية المواشي وزراعة الحبوب في الميدان الزراعي تقيم الدليل على انعدام التخصص في الزراعة في أكثر مناطق المغرب الأوسط بل قل في المغرب كله(35).لقد ساهم الخوارج بدور فعال في النشاط التجاري بين بلاد السودان وواحات الصحراء من جهة وبلاد المغرب الأوسط من جهة ثانية،وقدربطوه بالمشرق الاسلامي وبموانىء البحرالمتوسط،وقد اكسب دول الخوارج القائمة على عصبية قبلية بربرية قوة ومكانة بارزة في المغرب الاسلامي،وتكاد تنحصر بضاعة هذا النشاط في نوعين من بضائع العصر:الذهب والعبيد(36)،وفي هذاالموضوع ذكر ابن الصغير عن نشاط تاهرت التجاري بقوله:”واستعملت السبل إلى بلد السودان وإلى جميع البلدان من مشرق ومغرب بالتجارة،وضروب الامتعة،فأقاموا على ذلك سنتين أوأقل من ذلك أو أكثر والعمارة زائدة والناس والتجارمن كل الأقطارتاجرون”(37).ويتضح من نص ابن الصغير أن تاهرت كانت لها علاقات تجارية ببلاد السودان عبر المسلك الصحراوي،لأن إمارة بني رستم كانت تتحكم في أجزاء من صحراء المغرب الأوسط،وبالتالي فالمسلك التجاري الصحراوي كان تابعا لإمارة بني رستم،كما يستخلص من هذ النص أن الطرق التجارية كلها كانت تؤدي إلى عاصمة بني رستم سواء من المشرق الاسلامي أو من مدن المغرب الاسلامي الأخرى،وأن تاهرت كانت تتميز بحركة تجارية نشيطة بحكم موقعها الجغرافي والتجاري الذي يربط بين القيروان ومدن المغرب الأقصى وبلاد السودان،وقد أفرزت الحركة التجارية تأسيس العمارة،ومن أهم الصادرات تاهرت في النشاط التجاري مع بلاد السودان الحبوب والصوف والجلود.أما مدينة سجلماسة فهي مدينة تجارية.
ويعود القضل في ازدهارها وتقدمها المعماري،ومظاهر الترف في حياتها الاجتماعية وهجرة الناس إليها من البصرة على شط العرب إلى الأندلس وبلاد السودان إلى نشاطها التجاري،ومركزها الحساس في مغترق مسالك تجارية هامة في تاريخ التجارة المغربية في العصر الوسيط،بل كانت مركزا تجاريا عالميا عصرئذ،فالتجارة هي مصدرالثروة الكبيرة التي تجمعت بالمدينة.وعلىوجه الخصوص الثروة الذهبية التي كانت بأيدي سكانها وخاصة فئات التجار بينهم،ويقول عنهم ياقوت الحموي:”وأهل هذه المدينة من أغنى الناس وأكثرهم مالا؛لأنها على طريق من يريد غانة التي هي معدن الذهب،ولأهلها جرأة على دخولها”(38).وأشار البكري إلى “أن الذهب عند سكان سجلماسة جزاف عدد بلا وزن،والكراث يتبايعونه وزنا لا عددا”(39).ويروي ابن حوقل قصة طريفة عاشها بمدينة أودغست تصور مدى الثراء الذي بلغته فئة التجاربسجلماسة،فبعد أن تحدث عن سكانها من تجار البصرة والكوفة وبغداد،وعن الحركة التجارية الدؤوبة بها.قال عن أهل سجلماسة:”…وسائرأرباب المدن دونهم في اليسار وسعة الحال،وتتقارب بالعصبية أوصافهم،وتتشاكل أحوالهم،ولقد رأيت بأودغست صكا فيه ذكر حق لبعضهم على رجل من تجار أودغست،وهو من أهل سجلماسة باثنين وأربعين ألف دينار ومارأيت،ولاسمعت بالمشرق لهذه الحكاية شبها ولانظير،ولقد حكيتها بالعراق وفارس وخراسان فاستطرفت…”(40).ولقد كانت التجارة مصدر القوة المالية،وبالتالي مصدر القوة السياسية والعسكرية إمارة بني مدرار الصفرية،وبلاحظ أن مبلغ المكوس الذيوظفه أميرها المعتز على القوافل الصادرة والواردة،وعلى ما يباع بها ويشترى سصل مع العشر والخراج أربعمائة ألف دينار،وهذا المبلغ جباية المدينة وعملها فحسب،وأصبحت مهنة خفارة القوافل التجارية من سجلماسة نحو فاس وأغمات والسوس ثم نحو الجنوب في اتجاه أودغست وغانة عملا يدر على القبائل البربرية المقيمة بالقرب من المسالك التجارية أرباحا طائلة ،فهم يوظفون عليها ضريبة ويلزمونها بقبول خفارتها(41).
لم تكن سجلماسة تمثل خاتمة المطاف بالنسبة للقوافل،فهي تتجه إليها باعتبارها مركزا تجاريا نشطا مع بلاد السودان،فهي باب لمعدن التبر أو ميناء صحراوي تتجمع فيه البضاعتان الثمينتان من بضائع العصر:الذهب والرقيق،إن جميع القوافل التجارية القادمة من المراكز التجارية المذكورة والمتجهة نحو بلاد السودان أو العائدة منها تمر بسجلماسة.وذكر ابن حوقل المسلك الصحراوي في اتجاه الجنوب من سجلماسة* نحو بلاد السودان بقوله:”وبين المغرب وبلد السودان مفاوز وبراري منقطعة،قليلة المياه متعذرة المراعي،لاتسلك إلا في الشتاء،وسالكها في حينه متصل السفر دائم الورود والصدر،وهو طريق تجارة الذهب مع أودغست وغانة بالخصوص”(42).وتجدر الإشارة إلى أن البضائع التي كانت تحملها القوافل التجارية المتجهة إلى سجلماسة أو المنطلقة منها،والتي كانت تسوق في بلاد السودان،وحسب ما جاء في كتب الجغرافيين العرب أن صادرات سجلماسة من المتوجات الزراعية ومنتوجات الحرف اليدوية المختلفة كان نحو بلاد السودان، وخاصة نحو مدينة أودغست وغانة وتكرور،ومن هذه المنتوجات القمح وأنواع التمور،والثمار المجففة والزبيب والمسوجات والنحاس المصنوع والخرز والملح.ويجلب من بلاد السودان الذهب والرقيق والعنبر وأشجار الصمغ من جبل يشرف على مدينة أودغست،ويصمغ بها الديباج،ويصدرهذا الشجر عن طريق سجلماسة على الأندلس(43).ويصف الحميري مدينة تكرور بقوله:”…وإليها يسافر أهل المغرب الأقصى بالصوف والنحاس والخرز،ويخرجون منها بالتبر والخدم…”(44).بينما أشار البكري إلى ثراء أهل أودغست قائلا:”وكانت لهم أموال عظيمة ورقيق كثير كان للرجل منهم ألف خادم وأكثر”(45).وكان أهل أودغست يتعاملون بالتبر الخالص وليس بالفضة،فالقوافل التجارية القادمة من سجلماسة بأنواع البضائع المذكورة تعود ببضاعتين هامتين هما الذهب والرقيق،ويصدرإلى أودغست القمح والثمار والزبيب.
كما يتجهز إليها بالنحاس المصنوع وبثياب مصبغة بالحمرة والزرقة مجنحة،ويجلب منها العنبر المخلوق الجيد لقرب البحر المحيط منهم والذهب الابريز الخالص خيوطا مفتولة وذهب أودغست أجود من ذهب الأرض واصحه(46).وينقل السلاوي نصا عن الشريشي يصور بدقة أهمية نوع التبادل التجاري بين سجلماسة وغانة.فيقول:”وقال الفقيه الأديب أبو العباس أحمد بن عبدالمؤمن القيسي الشريشي في شرح المقامات الحريرية مانصه غانة بلد من بلاد السودان،وإليها بنتهي التجار يعني من المغرب،والمدخل سجلماسة،ومن سجلماسة إيابا مسيرة شهر ونصف ودون ذلك،وسبب ذلك أن الرفاق تتجهز إليها من سجلماسة بالأمتعة والأثقال،فتباع في غانة بالتبر،فمن سافر إليها بثلاثين حملا،يرجع منها بثلاثة أحمال أو بحملين واحد لركوبه،وثان للماء بسبب المفازة التي في طريقها،حثني غيرواحد من تجارها أنهم يقطعون المفازة في ستة عشريوما لا يرون فيها ماء إلا على ظهور الإبل،فأثمان أحمال الثلاثين جملا يجتمع فيها من التبر ما يجعل في مزود واحد فيطوون المراحل للخفة”(47).ويستخلص من نص السلاوي الذي نقله عن الفقيه الأديب أبو العباس أن المسلك التجاري بين سجلماسة وغانة لم يكن سهلا بل كان شاقا،بسبب المفاوز،وفي نفس الوقت يستنتج منه أن الصادرات سجلماسة إلى بلاد السودان كانت ضخمة من حيث الحجم والكمية أكثر من صادرات بلاد السودان إلى المغرب الاسلامي،بحيث ذكر أبو العباس أن تجار سجلماسة كانوا يسافرون على بلاد السودان بثلاثين حملا،يعودون بثلاثة أحمال.بالاضافة إلى السلع والبضائع التي كانت مدن المغرب الاسلامي تصدرها إلىبلادالسودان،فإن هناك بضاعة لاتقل أهمية في العلاقات التجارية بين المغرب الاسلامي وبلاد السودان وهي الملح،فكانت هذه البضاعة تمر بسجلماسة،وكانت نادرة في بلاد السودان،وكانت مصدرا للربح الوافر،والحصول بالمقابل على كميات كبيرة من الذهب،وفي هذا الصدد يقول ابن حوقل:”وربما بلغ الحمل الملح في دواخل بلد السودان وأقاصيه ما بين مائتين إلى ثلاثمائة دينار”(48).ويبدو من نص ابن حوقل أن الملح كسلعة كانت لها أهمية في أسواق بلاد السودان،مثلها مثل الذهب والرقيق في بلاد المغرب.
منعدمة في بلاد السودان،وكان الطلب عليها كبيرا،مما جعل تجار المغرب الاسلامي يستغلون هذه المادة في استيراد الذهب والرقيق.كما يستنتج من التبادل التجاري بين بلاد المغرب وبلاد السودان أن هناك تكامل إقتصادي وتجاري بين المنطقتين. بحيث كانت بلاد المغرب الممثلة في مدن عواصم إمارته تمد أسواق بلاد السودان ماتحتاجه من سلع وبضائع،وكانت بلاد السودان تصدر إلى بلاد المغرب ماتحتاجه أسواقه من بضائع خاصة الذهب والرقيق.لقد انعكس ازدهار التجارة بين بلاد المغرب وبلاد السودان على المغرب الاسلامي بحيث ظهر تطورا عمرانيا،فمن المعروف أن المغرب الاسلامي كان يتميز بطابعه العمران البدوي،وكانت هذه السمة الأساسيةبلاد المغرب منذ العصور القديمة،وفي العهد الاسلامي أيضا بالرغم ما عرفته فترة طويلة منه من ازدهار عمراني،ولكن تأسيس كثير من المدن التجارية خلال القرنين الثاني والثالث للهجرة أثر تأثيرا مباشرا في عدد من مناطق العمران البدوي،وساهم خلال أجيال عديدة في انتقال فئات اجتماعية من مرحلة العمران البدوي إلى مرحلة العمران الحضري،وهذا التطور التاريخي هو الذي انطلق منه ابن خلدون فيما ذهب إليه من أن البدو أصل للمدن والحضر وسابق عليهما،حيث قال:”ومما يشهد لنا أن البدوأصل للحضر،ومتقدم عليه،فنشلأ أهل مصر من الأمصار وجدنا أكثرهم من أهل البدو الذين بناحية ذلك المصر وفي قراه،وأنهم أيسروا فسكنوا المصر وعدلوا إلى الدعة والترف الذي في الحضر،وذلك يدل على أن أحوال الحضارة ناشئة عن أحوال البداوة،وأنها أصل لها فتفهم”(49).فالغرض من ذكر نص ابن خلدون هو إبراز دور التجارة في تطور المدن بالمغرب الاسلامي،بل أكثر من هذا فقد ازداد عددها،وتطورت بعض القرى إلى مدن، ولعل الفضل يعود إلى تجارة الذهب والرقيق التي كانت تجلب من بلاد السودان.وفي هذالموضوع ذكر أحد الباحثين أن ظاهرة التجارة الصحراوية المغربية ومارافقها من توريد البضاعتين الأساسيتين الذهب والرقيق كان لها دور اقتصادي فعال في الفترة التي عرف خلالها المغرب الاسلامي مراكز عمرانية متطورة نشطة.
الفترة التي عرف خلالها المغرب الاسلامي مراكز عمرانية متطورة نشطة تربط بينها شبكة مسالك تجارية تتصل بدورها بشبكة مسالك التجارة العالمية،ولكن عندما تدهورت هذالمركز ،وتضاءل الانتاج ،وضعف توزيع العمل وأدى كل ذلك في النهاية إلى انهيار ديمغرافي بدأ بانهيار المدن عمرانيا واقتصاديا(50).وعندما أصبح ذهب السودان يفد قليلا عبر بعض المسالك القديمة،تحولت بعض المدن المغربية إلى مجرد مراكز للعبور دون أن تستفيد من تجارة العبور.
خلاصة:
ارتبطت التجارة بين المغرب الاسلامي وبلاد السودان بنشر الاسلام،وتوطدت العلاقات التجارية بينهما بفضل فئة التجار التي لعبت دورا أساسيا في هذه العلاقات،وكان المغرب الاسلامي قد ساهم في إحياء وازدهار بلاد السودان الواقعة ما وراء الصحراء الكبرى عمرانيا وتجاريا،كما ساهمت بلاد السودان أيضا بفضل تصديرها للذهب والرقيق في تطور مدن المغرب الاسلامي،وقد أحدث النشاط التجاري حركة اتصال بين المغرب الاسلامي وبلاد السودان خاصة في القرنين الثالث والرابع للهجرة،وكذلك تكاملا إقتصاديا،وكانت نتيجة المبادلات التجارية بين المنطقتين أن تغيرت المجتمع المغربي،وأصبح يضم عناصرجديدة تتمثل في عنصر السود الذي ساهم بدوره في التطور العمراني والاقتصادي للمغرب الاسلامي،وبمجرد أن بدأت بلاد المغرب تفقد حيوية المسالك التجارية بينها وبين بلاد السودان،تراجع نشاط المدن في المغرب الاسلامي وضعف عمرانها،وضعف دورها كحلقة وصل في المبادلات التجارية بين المشرق الاسلامي والأندلس من جهة وبلاد السودان من جهة أخرىوانخفض نموها الديمغرافي بسبب التدهورالاقتصاد المغربي وكذلك نهضة المغرب العمرانية،لأن تجارة الذهب والرقيق هي التي كانت وراء التطور والازدهار الاقتصادي والمالي والعمراني في بلاد المغرب،والمحرك الأساسي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية فيها.
أ. عيسى قوراري
أستاذ مساعد بالمركز الجامعي بالمدية الجزائر
*************************
الهوامش:
(1) ألح الباحثون الغربيون الذين درسوا المدينة الأوروبية في العصور الوسطى كثيرا على القوة الخلاقة لمدن الغرب دون أن يهتموا بدور المدن في الحضارات الأخرى،بينما تفطن ف.برودال(F.Broudel) إلى غياب اهتمام المؤرخين والباحثين الأوروبييين بالمدن الأخرى التي وجدت في الحضارة الإنسانية خلال العصور الوسطى،وأشار إلى أن الباحثين الأوروبيين قد بالغوا في وصف قوة الابداع لمدن الغرب مع سوء تقييمهم لمدن أخرى غير أوروبيةينظرإلى:Annales,ESC,N4,1970,p829.
(2)د.الحبيب الجنماني:المغرب الإسلامي_الحياة الاقتصادية والاجتماعية في القرنين(3و4هـ_9_10م)_الدارالتونسية للنشر_الشركة الوطنية للنشر والتوزيع_الجزائر_1978_ص14
(3) نفسه:ص14
(4) ابن خلدون:المقدمة_ج3_القاهرة_1967_ص1009
(5)د.الحبيب الجنماني:المرجع السابق _ص15
(6) وكانت المدن المغربية وقد أصبحت مراكز استهلاك ذات شأن نتيجة تطورها العمراني،تستورد مقابل الذهب بالخصوص فرو الغابات الروسية والسلاح المصنوع في أوروبا وكذلك الخشب لاستخدامه في صناعة السفن بصفة خاصة والقصدير وتجارة الرقيق الصقلبي،ومن المعروف أن عدد الصقالبة قد كثر في قصور المغررب خلال القرنين الثالث والرابع،وأصبح ذهب السودان يحمل معه الأسى إلى كثير من مناطق أوروبا الشرقية بصورة خاصة.ينظرإلى:Maurice Lombard:L’Islam dans sa premiere grandeur8-11siecle,paris,1971,p155
*من أهم الدراسات الحديثة التي أكدت أن ذهب السودان كان سببا في نهضة أوروبا الغربية والجنوبية أبحاث م.بلوك(M.Block)،ف.برودال(F.Braudel)،ر.لوباز(R.Lopez).
(7)M.Malowist:quelques Observations sur le commerce de l’or dans le soudan occidental au moyen ageAnnales,esc,Novembre decembre,paris,1970,p1630
(8)Claude Cohen:Histoire Generale des civilisations,t3,le moyen age,paris,1967,pp155 158،د.الحبيب الجنماني:المرجع السابق_ص18
(9) يرى عبدالله العروي أن الفضل في التطور التجاري لبلاد المغرب لا يعود إلى العرب الفاتحين،وقد كانوا منشغلين بالفتح،بل يعود فئات البربر المنضوين تحت لواء إمارات المغرب الأوسط،وأن حروب الفتح قد دفعتهم باللجوء إلى جنوب بلاد المغرب،وجاء نتيجة ذلك الاندماج الاقتصادي بين الصحراء والمناطق الشمالية للمغرب،ولعل ذلك يمثل الظاهرة الأساسية.ينظرإلى:L’histoire de Maghreb,paris,1970,p119،ويفهم من نص عبدالله العروي أن الفتح الإسلامي لبلاد المغرب قد أحدث تغيرات اجتماعية واقتصادية،تتمثل في نزوح البربر من مناطق الشمال للمغرب إلى جنوبه،وأن الصراع المذهبي،كان له الفضل في النشاط التجاري بحيث أصبح البربر يقومون بدور هام في المبادلات التجارية بين المغرب الأوسط وبلاد السودان،ولكن يبدو أن هناك اختلاف بين رأي العروي ومانتج عن الصراع الذي قامت به حركة الخوارج التي أدت إلى إعاقة النشاط التجاري بين المغرب وبلاد السودان لأن المسالك التجارية كانت غيرمؤمنة.
(10)ينظرإلى محمد الطالبي:عن إفريقية في العصر الأغلبي ضمن كتاب تاريخ تونس في العصر الوسيط_تونس_د.ت_ص185
(11) يبدو من رواية ابن خلدون أن الطريق التجاري الذي كان يتردد عليه التجار المصريون هو طريق بلادالمغرب للوسول إلى مالي،ففي هذه الرواية يتحدث ابن خلدون عن عصر ملك مالي ماري جاطة بن منسا في النصف الثاني من القرن الثامن الهجري معتمدا على رواية شفاهية،فيقول”إنه بذرواسرف واضطر إلى بيع حجر الذهب الشهير الذي كان في ذخيرة مملكة أسرته،وهو حجر يزن عشرين قنطارا منقولا من المعدن من غير علاج بالصناعة ولا تصفية بالنار،فعرضه جاطة هذا الملك المسرف على تجار مصر المترددين إلى بلده وابتاعوه منه بأبخس ثمن”.ينظرإلى العبرـج6ـبيروت ـ1959ـ ص418
(12)ينظر إلى الروض المعطار ـ بيروت ـ 1975 ـ ص134
(13) ينظرإلى:صورة الأرض ـ طبعة بيروت ـ دت ـ ص98
(14)ينظر إلى المسالك والممالك ـ الجزائرـ1857 ـ ص171
(15) ينظرإلى:الرحلة ـ طبعة بيروت ـ1964ـ ص674
(16) صورة الأرض ـ ص65
(17)المسالك والممالك ـ ص151
(18) نفسه:ص 159
(19) نفسه:ص 168
(20)د.الحبيب الجنماني:المرجع السابق ـ ص 28
(21) لقد ذكر الأصطخري الذي ألف كتابه في النصف الأول من القرن الرابع الهجري عن صادرات المغرب والأندلس إلى المشرق الاسلامي بقوله”والذي يقع من المغرب الخدم السود من بلاد السودان والخدم البيض من الأندلس والجواري المثمنات،تأخذ الجارية والخادم من غير صناعة على وجوهها بألف دينار وأكثر،وتقع منها اللبود المغربية والبغال للسرج والمرجان والعنبر والذهب والعسل والزيت والسفن والحرير والسمور.ينظرإلى المسالك والممالك ـ القاهرة ـ1961ـ ص37
(22)ابن عذارى المراكشي:البيان المغرب ـ ج1ـ بيروت ـ 1948ـ ص118 ـCl.Cohen:op.cit.p137
(23) ابن غذاري:البيان ،ـج1ـ ص 93و123و150ـ Mohamed Talbi:l’Emirat Aghlabide,paris,1966,pp.136 137
(24) القاضي النعمان بن محمد:رسالة افتتاح الدعوة ـ بيروت ـ 1970ـ ص257،وقد انتهج بنوزيري في القرن الرابع الهجري نفس السياسية وهي توظيف عبيد السودان كحرس وكجنود في جيش بني زيري ـ ينظرإلى البيان ـ ج1ـ ص238
(25)H.Djait:l’Islam ancien recupere al’histoire,Annales,Ecs,juillet Aout,1975,p904
(26)M.Lombard:op.cit.pp.103 112،وقد تعرض لومبارد في دراسته عن الذهب الإسلامي من القرن السابع إلى القرن الحادي عشر بشيء من التفصيل في كتابه:Les bases monetaires,d’une suprematie economique,l’or musulman du 7au11siecle,Annales Ecs t2,1947,pp143 160
(27) إن اكتشاف المسلمين في المغرب الإسلامي لهذا المصدر الجديد لذهب بلاد السودان لايعني أبدا أن هذا المصدرىلم يكن معروفا قبل الفتح الاسلامي،وهذا ماذهب إليه ف.برودال من أن التجارة الصحراوية أقدم بكثير من القرن العاشر الميلادي،ولعلها وجدت قبل القرن الثاني الهجري.ينظرإلى:F.Broudel:lq Mediterranee et le monde mediterreen al’epoque de philippe2,paris,1949,pp364 365،ويبدو أن التجارة الصحراوية القديمة قد توقفت في عهد الوندال والبيزنطيين،وازدهرت في العصر الاسلامي،وارتبطت بوحدة اقتصادية وعمرانية واسعة،وهذا ما اكسب استيراد ذهب السودان في العصور الاسلامية أهمية خاصة.ينظرإلى:Yves Lacoste:Ibn khaldoun,paris,1969,p25.
(28)M.Lombard:les bases monetaires,p.143
(29) إن أساليب التجارة المغربية وفنياتها لا تختلف عن أساليب التجارة الاسلامية المعروفة خلال العصر الوسيط،وقد تعرض لها الفقهاء في كتب المعاملات.ينظرإلى:Claude Cohen:op.cit.pp.158 160
(30)ينظرإلى:Abdellah Laroui:histoire du Maghreb,pp.120.121
(31) ينظرإلى المقدمة ـ ج3 ـ ص975
(32) ابن عذارى المراكشي:البيان ـ ج1ـ ص51
(33)ينظرإلى أغلبية ـ تونس ـ1968ـ ص126
(34)نفسه:ص322،أبوبكر عبدالله المالكي:رياض النفوس ـ ج1القاهرة ـ 1951ص388
(35)C.Vanacker:Geographie economique de l’Afrique du nord selon les auteurs arabes du 9siecles au 12 siecles,Annales esc,mai,juin1973,p674
(36)M.Lombard:op.cit.p.61
(37)ينظرإلى:اخبار الأئمة الرستميين ـ باريس ـ1908ـ ص13
(38) ينظرإلى:معجم البلدان ـ ج3ـ ص192
(39)ينظرإلى:المغرب في ذكربلاد إفريقية والمغرب ـ ص151
(40) صورة الأرض ـ ص96
(41) نفسه:ص99
*يبدو أن طريق تجارة الذهب والرقيق ولاسيما نحو أودغست وغانة كان يمر بصورة أساسية بسجلماسة في عهد بني مدرار،فهو الطريق الذي تكاد تقتصر عليه معلومات الجغرافيين العرب في القرنين الثالث والرابع الهجري.
(42) صورة الأرض ـ ص100
(43)البكري:المصدر السابق ـ ص158
(44) أبوعبدالله محمد بن محمد الحميري:الروض المعطار في خبر الأقطار بيروت 1975ص134
(45)البكري:المصدر السابق ـ ص 168
(46) نفسه:ص159
(47) ينظرإلى الاستقصاـ ج5ـ ط الدارالبيضاء ـ 1954ـ ص99 ومايليها.
(48) صورة الأرض ـ ص98
(49)المقدمة ـ ج2 ـ ص583
(50)المدن كما يقول برودال نقاط جامدة فوق الخرائط،فهي تتغذى من الحركة،وما تجارتها إلا حركة.ينظرإلى:la mediterranee,p.253